أبحاثأبحاث مقاصدية

اعتبار المقاصد في الفتاوى المالية

اعتبار المقاصد في الفتاوى المالية

الملخص

يهدف البحث إلى بيان أهمية إعمال المقاصد في الفتاوى المالية المعاصرة، فيبدأ بذكر أقسام المقاصد الرئيسية عند العلماء، ثم يبين المقاصد الخاصة بالأموال، والمبادئ القرآنية التي تحكم هذه المقاصد الخاصة، ويسرد ثمانية وجوه ومسالك يتجلى فيها اعتبار هذه المقاصد الخاصة بالأموال. ثم يتطرق إلى مقاصد الشريعة في أعمال البنوك الإسلامية العصرية، ويعالج مدى اعتبار المقاصد في فتاوى الهيئات المالية الإسلامية، وأخيراً يكشف عن الضعف المشهود في إعمال المقاصد في الفتاوى المالية وتأخُّر العناية ببحثها. ويسلك البحث في كل ذلك أمثلة من المعالجات التي قام بها العلماء المعاصرون، والمجامع الفقهية.
الكلمات المفتاحية: مستويات المقاصد، المقاصد الخاصة بالأموال، اعتبار المقاصد، الفتاوى المالية، البنوك الإسلامية.



Con­sid­er­ing Maqasid in Finan­cial Fatawa

Abstract

This paper demon­strates the impor­tance of employ­ing the intents of Shariah in con­tem­po­rary finan­cial fat­was. It starts by men­tion­ing main kinds of Maqasid, then iden­ti­fy­ing the spe­cial Maqasid of money and the Quranic prin­ci­ples that con­trol these Maqasid. The paper lists eight ways of employ­ing spe­cial Maqasid of money, iden­ti­fies Maqasid of con­tem­po­rary Islamic banks, and finally cites the weak con­sid­er­a­tion and appar­ent neglect in the real­iza­tion of the pur­poses and intents of Maqasid in finan­cial fat­was. The paper presents ample exam­ples on the works of con­tem­po­rary schol­ars and jurispru­den­tial acad­e­mies.
Key­words: lev­els of Maqasid, spe­cial Maqasid of Money, employ­ing Maqasid, finan­cial fat­was, Islamic Banks


مقدمة:

تحتل المعاملات المالية المستجدة الصّدارة في الاجتهادات والفتاوى والبحوث الفقهية المعاصرة. وهذا راجع إلى أهمية هذه المعاملات في التشريع الإسلامي من جهة، وإلى كثافتها في الحياة اليومية للمسلم من جهة أخرى. ولكنه يرجع أيضاً إلى النقلة النوعية التي أحدثها ظهور بنوك ومؤسسات مالية إسلامية حديثة، تلتزم السير وفق أحكام الشريعة، مع ما واجهته هذه التجربة من إشكالات، وما تطلبته من حلول وفتاوى.

لقد تعالت بعض الأصوات مؤخراً، منادية بضرورة مراعاة مقاصد الشريعة في سياسة هذه البنوك ومنتجاتها، وفي الفتاوى المتعلقة بمعاملاتها. ودعماً لهذا المسعى، تأتي هذه المساهمة.

أولاً: مقاصد الشريعة على مستويات

حين يجري الحديث عن مقاصد الشريعة، وعن الحاجة إلى مراعاتها واعتبارها في الاجتهاد والإفتاء، يتصور كثير من الناس أنَّ ذلك لا يعني أكثر من إقحام جملة من المقاصد العامة، والقواعد الكلية، والمصالح المرسلة، عند صياغة الأحكام والفتاوى، والترجيح فيما بينها. 
وما يساعد على شيوع هذه النظرة، أنَّ بعض العلماء إذا أطلقوا لفظ المقاصد، أو مقاصد الشارع أو الشرع، فإنَّهم يعنون بها في الغالب المقاصدَ العامة للشريعة الإسلامية. وعلى هذا اصطلاحُ الشاطبي وغيره من المتقدمين. ومنهم من يطلق المقاصد على المقاصد العامة للشريعة، ثم يدخل فيها سائر الأصول الكلية والقواعد الاستقرائية. وهذا هو اختيار الدكتور حسين حامد حسان، مع أنَّ الأصول الكلية والقواعد الاستقرائية ليست كلها مقاصد، بل هي أعم من المقاصد؛ فالاستحسان، ومراعاة العُرف، وإقامة مظنَّة الشيء مقام الشيء نفسه، وبقاء الحالة على ما وقعت عليه، والغُرم بالغنم، وأمثالها، كلّها قواعد فقهية وأصولية وليست مقاصد. 
ولأجل إعطاء مقاصد الشريعة مداها الكامل ومعناها “الجامع المانع”، لا بدّ أولاً من اعتماد التقسيم الثلاثي الذي سار عليه كثير من الدارسين المعاصرين. ولا بدّ ثانياً من اعتبار المقاصد في كافة الوجوه والمسالك الاجتهادية. والمقصود بالتقسيم الثلاثي للمقاصد أقسامها الثلاثة: مقاصد عامة، ومقاصد خاصة، ومقاصد جزئية. وهي أقسام متداخلة من غير شك، ولكنها متمايزة أيضاً، وبالتمييز بينها يكتمل معنى مقاصد الشريعة. وهذا بيان موجز لكل قسم منها:
أما المقاصد العامة، فهي المقاصد التي نجد رعايتها في كافة أبواب الشريعة أو معظمها. وأشهر أمثلتها الضروريات الخمس، التي هي حفظ الدين والمال والنفس والنسل والعقل. ومن المقاصد العامة للشريعة أيضا: عبادة الله تعالى، وتحقيق الاستخلاف، وعمارة الأرض، وإقامة العدل، وحفظ كرامة الإنسان، وإخراج المكلف عن داعية هواه، وحفظ نظام الأمة، وضبط الخَلْق منعاً للتسيب والتنازع والاضطراب في حياتهم.
والمقاصد الخاصة تعني أنها خاصة بباب معين، أو بجملة أبواب من قسم واحد من أقسام التشريع؛ كمقاصد الطهارات، أو مقاصد العبادات عامة، ومقاصد نظام الأسرة، ومقاصد العقوبات، ومقاصد الأحكام المالية، ومقاصد الولايات العامة. وسأعود إلى المقاصد الخاصة بالأموال بشيء من التفصيل.
وأما المقاصد الجزئية، فالمراد بها مقاصد الأحكام الشرعية الجزئية؛ أي مقاصد كل حكم على حدة. 
والحكم الشرعي الواحد قد يكون له مقصد واحد، كالأمر بالإشهاد، ومقصوده التوثيق المانع من التجاحد والتنازع، وكالحث على نظر الخاطب إلى المخطوبة، ومقصوده حصول الميل والرغبة قبل الإقدام على الزواج. وقد يكون للحكم أكثرُ من مقصد؛ كعِدَّة الطلاق؛ ويُقصد بها التثُّبت من الحمل أو عدمه، وتأمينُ السكنى والنفقة للمطلقة، وكبحُ الأزواج عن استسهال الطلاق. ومنه الأذان الذي شرع لدعوة المصلين إلى صلاة الجماعة، وللإعلام بدخول الوقت، ولذلك يسمى نداء، ويسمى أذاناً. ومنه تحريم الخمر، ومن مقاصده حفظ العقول والأبدان، وحفظ أداء العبادات والواجبات، وتلافي فساد العلاقات والمعاملات. وقد يكون للحكم مقصد أصلي ومقاصد تبعية؛ كالزواج الشرعي، مقصده الأصلي حفظ النسل، ومقاصده التبعية: الإعفاف، والاستمتاع، والأنس، والتعاون على أمور الدين والدنيا.
فكل هذه المقاصد وأمثالها هي مقاصد جزئية. ومعلوم أن المقاصد الجزئية تندرج حتماً في المقاصد الخاصة في هذا الباب أو ذاك، أو في أكثر من باب. وهما معاً: الجزئية والخاصة، مندرجان في المقاصد العامة؛ فالمقاصد الخاصة تتشكل من المقاصد الجزئية، والمقاصد العامة تتشكل من المقاصد الخاصة والمقاصد الجزئية معاً.
ومعلوم أيضاً أن المقاصد الخاصة إنما عُدّت خاصة مقارنة بالمقاصد العامة، وإلا فهي مقاصد عامة بالنسبة إلى المقاصد الجزئية. فحينما نذكر –مثلاً- المقاصد الخاصة بالأموال، فهي مقاصد عامة على أساس أنها مقاصد مشتركة وممتدة في أبواب متعددة وأحكام كثيرة، لكن يجمعها ويحدها المجال المالي، وهنا تكمن خصوصيتها. وهذه المقاصد الخاصة بالأموال نجدها تندرج في بعض المقاصد العامة. فهي أولاً مندرجة في أحد المقاصد الكلية الذي هو حفظ المال، بوصفه أحد الضروريات الخمس المنتشر حفظها ورعايتها في كافة أبواب الشريعة. ومقصدُ العدل في الأموال، مندرج في مقصد آخر من المقاصد العامة للشريعة، وهو إقامة العدل في الحياة كلها. وهكذا يقال في سائر المقاصد المتعلقة بأقسام معينة وأبواب بذاتها.

ثانياً: المقاصد الخاصة بالأموال

لعلّ أول من اعتنى بإبراز هذا النوع من المقاصد الخاصة هو العلامة ابن عاشور في كتابه: “مقاصد الشريعة الإسلامية”، الذي صدر منذ سبعة عقود. وقد خصص له مبحثاً بعنوان “مقاصد التصرفات المالية”. وفيه قال: “والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها.” ثم أورد شروحاً وأدلة لهذه المقاصد الخمسة.
وبعد ابن عاشور، تناول هذا الموضوعَ، عددٌ من العلماء والدارسين والباحثين المعاصرين، مثل العلامة عبد الله بن بيه في: “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات”، والعلامة يوسف القرضاوي في: “مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال”. 
واستعرض ابن بيه المقاصد الخمسة التي حددها ابن عاشور، فأيّدها وبيّنها وعلَّق عليها، ثم أعاد صياغتها وترتيبها بقوله: “وإذا أردنا ترتيب هذه المقاصد من حيث المقصدية القائمة على وزن المصلحة، فإنَّ أعلى مقصد هو، الأول: الكسب وإيجاد المال، والثاني: حفظ المال “وضمنه جاء مقصد العدل، الذي يحفظ الأموال من كل أشكال التعدي والظلم.” الثالث: الوضوح، ويمكن أن نسميه بالشفافية، والرابع: مقصد التبادل أو التداول… .” ويتسم الكتاب بكثرة تطبيقاته الفقهية واجتهادات مؤلفه في إعمال النظر المقاصدي والأصولي في الفتاوى والمستجدات المالية الحديثة.
أما القرضاوي، فنحا في بحثه منحىً تفصيلياً جديداً في استقصاء المقاصد المالية وتصنيفها. وقد انتهى إلى تعداد سبعة وعشرين من هذه المقاصد، موزعة على ستة أنواع هي:

1. مقاصد الشريعة المتعلقة بقيمة المال ومنـزلته. وفيها ثلاثة مقاصد، هي: بيان منـزلة المال، وأهميته، وإيجاب المحافظة عليه، والتحذير من الافتتان به والطغيان بسببه.

2. ربط المال والاقتصاد بالإيمان والأخلاق. وفيه مقصدان هما: ربط المال والاقتصاد بالإيمان والربانية، وربطهما بالأخلاق والـمُثُل الإنسانية.

3. مقاصد الشريعة المتعلقة بإنتاج المال، وهي سبعة: الحث على إنتاج المال وكسبه بالطرق المشروعة، وتحريم الكسب الخبيث، وإيجاب تنمية المال بالطرق المشروعة، وتحريم إنتاج ما يضر، وتحقيق تمام الكفاية للفرد، وتحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة، ولزوم التنسيق بين فروع الإنتاج.

4. مقاصد الشريعة المتعلقة باستهلاك المال، وهي أربعة مقاصد: إباحة الطيبات، وترشيد الاستهلاك والإنفاق، ومحاربة الترف، والمحافظة على البيئة ومكوناتها.

5. مقاصد الشريعة المتعلقة بتداول المال، وفيها مقصدان: ضبط المعاملات المالية بأحكام الشريعة، وتداول النقود وعدم كنـزها.

6. مقاصد الشريعة المتعلقة بتوزيع المال. وهي ثمانية: تحقيق العدل في توزيع المال بين الفئات والأفراد، وتمليك الفقراء والضعفاء بإيجاب الزكاة وعدّها ركناً من أركان الإسلام، والتقريب بين الفوارق، واحترام الملكية الخاصة للمال، ومنع الملكية الخاصة في الأمور الضرورية لعموم الناس، وتقرير قاعدة التكافل المعيشي في المجتمع، وتحرير الإنسان من نير الفقر، والعناية بالمشكلات أو الحاجات الطارئة.

وأما بقية ما كُتب في المقاصد المالية للشريعة الإسلامية، فلا يكاد يخرج عما تقدم. ومن أجود التلخيصات لهذه المقاصد، ما سماه الشيخ صالح الحصين بالمبادئ القرآنية الثلاثة، وهي:

أ. أن يكون المال قياماً للناس، ولا يكون محلاً لطيش السفهاء.

ب. أن لا يكون المال دُولة بين الأغنياء.

ت. عدم الظلم في المعاملة المالية.

وأما اعتبار المقاصد في الفقه والاجتهادِ الفقهي فمعناه: أخذُها في الحسبان، واعتمادها في الميزان؛ أي: استحضارها وتحكيمها. وهذا الاعتبار للمقاصد يجري في فقه الأموال، على نحو ما يجري به في سائر الأبواب الفقهية وفي كل اجتهاد فقهي. فالحديث الأصولي والمنهجي عن اعتبار المقاصد في فقه الأموال، يسع هذا الباب وغيره من أبواب التشريع الإسلامي على حد سواء، إلا ما كان من اختلاف الصور التطبيقية، وبعض خصوصياتها. والاعتبار عكسُه الإلغاء والإهدار. ولذلك قالوا: مصلحة معتبرة، ومصلحة ملغاة. فهذه عكس تلك. ومعنى هذا أن عدم اعتبار المقاصد في الفهم والفقه والممارسة، يعني إهدارها وإلغاءها.

وإذا كانت المقاصد المتحدَّث عنها هي مقاصد الشارع الحكيم؛ أي ما أراده وأراد تحقيقه من كلامه وأحكامه، فلا يسع أحداً الترددُ في تحرِّيها واعتبارها. فالتعاملُ مع النصوص والأحكامِ الشرعية –فهماً وتنـزيلاً- من غير اعتبار لمقاصدها، إنما هو تحريف وسوء استعمال لتلك النصوص والأحكام، لأن المقصد هو المعنى الحقيقي والغرض الحقيقي للحكم الشرعي، فكيف تراعَى الظواهر والرسوم، وتهمَلُ المعاني والحِكَم المقصودة!

والحق أن اعتبار المقاصد وتحكيمَها أمر مسلَّم ومتفق عليه –من الناحية المبدئية– عند كافة العلماء سلفاً وخلفاً، باستثناء قلّة من ذوي النـزعة المغالية في سطحيتها وحَرفيتها، كما هو شأن الخوارج والظاهرية ومن لفَّ لفَّهُم. وهؤلاء ليس لهم وزن يذكر عند العلماء، لا كمّاً ولا كيفاً. إلا أن هذا الاعتبار المبدئي للمقاصد عند جماهير العلماء، لا يأخذ –دائماً- حقَّه ومكانته الفعلية في الفقه والاجتهاد الفقهي، بل الأمر يتفاوت ويختلف باختلاف العصور والمذاهب والأشخاص.

وعموماً، فإن العصر الأول، ثم العصور القريبة منه، كانت أكثر مراعاة للمقاصد وأبلغ تحكيماً لها، في الفهم والاستنباط والاجتهاد والإفتاء. ثم اضطربت الأمور وتأرجحت بعد ذلك، وأخذت الاعتبارات الصورية والشكلية واللفظية تهيمن على العقلية الفقهية الأصولية، ومعها إيثار التقليد والتحوُّط والإحجام. وهذه كلها أمور تُضعف اعتبار المقاصد والنظرَ المقاصدي.

وفي العصر الحديث انبعثت وانتعشت تطلعاتٌ ومساعٍ اجتهاديةٌ تجديدية، علمية وعملية، ومنها السعي إلى إعادة الاعتبار للمقاصد وللفقهِ المقاصدي. غير أنّ هذه النقلة التصحيحية لا يمكن أن تتم وتصل إلى مبتغاها إلا عبر جهد جهيد وزمن مديد. فها نحن، بعد عدة عقود على ظهور المجامع الفقهية، وعلى انطلاق تجربة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، وما صاحب هذه وتلك من حركة فقهية اجتهادية مكثفة في المجالات والقضايا المستجدة، ما زلنا نبحث ونتباحث في مكانة المقاصد ومدى إلزاميتها، وكيفية الأخذ بها، وما إن كانت تبنى عليها الأحكام، أم تقتصر وظيفتها على الترجيح عند الاحتياج. إلا أن تزايد الاهتمام بالمقاصد –على تأخره وتعثره– إنما يعكس زيادة الوعي والاقتناع بأهميتها وضرورتها، والسعيِ الحثيثِ لمزيد من مراعاتها وتفعيلها. فمن مظاهر هذا الوعي وهذا السعي، إدراجُ مجمع الفقه الإسلامي الدولي موضوع “المقاصد الشرعية ودورها في استنباط الأحكام” ضمن محاور دورته الثامنة عشرة، المنعقدة في ماليزيا في جمادى الآخرة 1428ﻫ/يوليو2007م. وقد تضمن قراره رقم 167(5|18) –الخاص بهذا الموضوع– التنصيصَ في بنده الثامن على “أهمية إعمال المقاصد الشرعية في تنـزيل الأحكام الشرعية على الواقعات والنوازل للمعاملات المالية المعاصرة وغيرها، لتحقيق التميز في الصيغ والمنتجات الإسلامية واستقلالها عن الصيغ التقليدية.” وجاء في البند الثاني من القرار المذكور: “يؤدي اعتبار المقاصد في الاجتهاد وظائف عدة منها:

1. النظر الشمولي لنصوص الشريعة وأحكامها.

2. اعتبار مقاصد الشريعة من المرجِّحات التي ينبغي مراعاتها في اختلاف الفقهاء.

3. التبصر بمآلات أفعال المكلفين وتطبيق الأحكام الشرعية عليها.”

وفي وقت مقارب أدرجت ندوة (البركة) أيضاً هذا الموضوع في دورتها الثامنة والعشرين؛ رمضان 1428ﻫ/سبتمبر 2007، وقُدِّم فيها بحث مستفيض للدكتور حسين حامد حسان بعنوان: “مراعاة مقاصد الشريعة ومآلات الأفعال في العمل المصرفي الإسلامي”، وصدرت عن هذه الدورة توصية بهذا العنوان تحمل رقم (28|1). وقد جاء في البند الأول من بنود التوصية: “إن مقاصد الشريعة التي تتمثل في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، بما يؤدي إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، سواء أكان ذلك في الضروريات أم الحاجيات أم التحسينيات، جعلها الشارع إطاراً لضمان سلامة الاجتهاد بشروطه، وضبط الاستنباط، ليتحقق الغرض المقصود للشارع.. .“
وتزامناً مع ما سبق أيضاً، قررت الأمانة العامة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث تناول هذا الموضوع، وخاصة في شقه المالي، فكلفت رئيس المجلس العلامة يوسف القرضاوي بإعداد بحث حول “مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال”، ليقدَّم في دورة المجمع الثامنة عشرة، يوليو 2008م، وهو البحث الذي صدر في كتاب مستقل سنة 2010م. وهي السنة نفسها التي صدر فيها كتاب (مقاصد المعاملات) للعلامة ابن بيه.

وعلى الرّغم من هذا الاهتمام المتزايد بمقاصد الشريعة، وخاصة في المجال المالي، فإنّ الأخذ بالمقاصد وإعمالها في الاجتهاد الفقهي ما زال يواجه نظرة قاصرة تختزله في الالتفات إلى بعض المقاصد العامة، والاستئناس بها في التعليل والترجيح. والحقُّ أنَّ اعتبار المقاصد في الاجتهاد والاستنباط لا ينحصر في مراعاة الضروريات الخمس ونحوها من المصالح الشرعية العامة المتعلقة بالحكم المراد تقريره، بل هو مطلوب ومتحتِّم ومؤثِّر في كل الخطوات الاجتهادية.

ثالثاً: بعض الوجوه والمسالك التي يتجلى فيها اعتبار المقاصد

1. تحرّي معرفة الحكمة والمصلحة المقصودة من وراء الحكم المنصوص، لمراعاتها في الاستنباط والقياس والتنـزيل:

بعد معرفة المعنى المقصود والحكم المقصود، يقتضينا اعتبارُ المقاصد النظرَ كذلك في الحِكمة التي وضع لأجلها ذلك الحكم؛ أي المصلحة المرادة للاجتلاب، والمفسدة المرادة للاجتناب. فإن أمكننا معرفتها والاطمئنان إليها راعيناها وبنينا عليها تنـزيل الحكم وتحديد مناطه؛ أي ما يدخل فيه وما لا يدخل، وما يُغتفر فيه وما لا يغتفر، وما يُلحق به وما لا يلحق به، فهذا من صميم اعتبار المقاصد. والأصل في الأحكام: المعقوليةُ والتعليلُ، ويزداد هذا الأمر ثبوتاً ووضوحاً في أحكام المعاملات، وهو أشد ما يكون ثبوتاً ووضوحاً في المعاملات المالية خاصة.
ويمكن الإشارة هنا إلى عدد من النواهي النبوية في مجال البيوع؛ كالنهي عن تلقّي الركبان، والنهي عن بيعتين في بيعة، والنهي عن بيع ما لم يقبض، والنهي عن البيع على البيع. فتحديد المقصد من كل واحد من هذه النواهي، أو من مجموعها، هو جزء لا يتجزأ من معرفة معاني الأحاديث وأحكامِها وما ينبني عليها. ومن أخطأ في معرفة المقصد أخطأ في استنباط الحكم، وأخطأ في تحديد موضعه ومناطه، وربما أدخل فيه ما ليس منه، وأخرج منه ما هو داخل فيه. فتحديد المفسدة المقصودة بالنهي، وكذلك تحديد المصلحة المقصودة بالأمر، خطوة لا تقل أهمية وتأثيراً عن تصحيح الحديث وتضعيفه. فهذا تصحيح وتضعيف للرواية، وذاك تصحيح وتضعيف للدراية. وكما تختلف الفتاوى والاستنباطات الفقهية المنبنية على هذه الأحاديث، بسبب اختلافات في تصحيحها، فإنّ من أسباب الاختلاف كذلك الاختلاف حول حكمتها ومقصودها. والأمران معاً بحاجة إلى دراسات تمحيصية حاسمة.

2. النظر فيما يُظنّ مقصداً وليس بمقصد، لنفيه واستبعاد تأثيره:

هذا العنصر هو الوجه المقابل والمكمِّل للعنصر السابق. فإن من تمام إثبات الحِكم والمقاصد المعتبرة في الحكم، النظرَ في “الحكم والمقاصد” المفترضة أو المتوهَّمة، لنفيها واستبعاد تأثيرها، وخاصة تلك التي قد تُروَّج وتعتمد في بعض الفتاوى والمؤلفات. ومن أمثلة ذلك –في مجالنا– ما نبَّه عليه الدكتور سامي السويلم بقوله: “يظن كثير من الباحثين أن التشريع الإسلامي يستهدف التعرض للمخاطرة، وأن المخاطرة مقصودة شرعاً. وهذا تصور غير دقيق في حقيقة الأمر؛ فالمخاطرة تعني التعرض لاحتمال الهلاك أو التلف، كما هو معنى الكلمة لغة، وكما هو مفهومها الاقتصادي. ومن الثابت يقيناً أنّ الشرع لا يقصد تلف المال أو هلاكه ولا التعرض للهلاك. بل إنّ من مقاصد التشريع المقطوع بها: حفظ المال. وهذا ينافي قصد التعرض للهلاك، أو المخاطرة.”

ومن هذا الباب ما يفهمه كثيرٌ من النَّاس أنَّ الآيات والأحاديثَ الواردةَ في ذمِّ الدنيا والتقليل من شأنها والتزهيد في متاعها، مقصود بها الدعوة إلى تقليل الكسب والإعراض عن المال والغنى ومُتَعِ الحياة الدنيا. والحقُّ أنَّ هذا “المقصد” غير صحيح، وليس مقصداً شرعياً، وإنما المراد بتلك النصوص الرفع من همم الناس ونفوسهم، حتى لا يكونوا من عُبّاد الدنيا وزخارفها، وحتى لا يضيعوا لأجلها أخلاقهم وقيمهم، ومصالحهم الأخروية. قال الشاطبي: “ولما ذَمَّ [أي: اللهُ تعالى] الدنيا ومتاعَها هَمَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتَّلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسولُ الله صلى الله عليه و سلم وقال: “من رغب عن سنتي فليس منِّي”. ودعا لأناس بكثرة المال والولد، بعد ما أنـزل الله: “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (الأنفال: ٢٨)، والمال والولد هي الدنيا. وأقرّ الصحابةَ على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهِّدْهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرصٍ أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك. وما سواه فلا.”

3. التمييز بين ما هو مقصود لذاته وما هو مقصود لغيره:

لا بدّ هنا من التذكير بأنّ المحرمات على نوعين: نوع محرم لذاته؛ أي هو بذاته مطلوب الاجتناب، وفيه ما فيه من المفاسد. ونوع محرم لغيره، أي لأجل غيره، لأنه يفضي إليه. ويسمى محرَّماً للذريعة، أو محرَّماً لغيره. فهو في ذاته ليس مفسدة ولا حراماً، وإنما نُهي عنه لما يفضي إليه.
وكذلك شأن الواجبات، منها ما هو واجب لذاته، ومنها ما هو واجب لأنَّ واجباً غيرَه يتوقف عليه. فالأول واجبٌ وجوبَ مقاصد، والثاني واجبٌ وجوب وسائل. ومن أمثلة هذا الباب أن ربا النَّسيئة محرم لذاته، وربا الفضل محرم لغيره؛ أي فقط لكونه ذريعة ومقدمة لربا النَّسِيئة. والضَّرر، والضِّرار، والغَرر، والغُبْن، منهيٌّ عنها لذاتها، وأما الجهالة، وبيع الكالئبالكالئ، وبيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها، فمنهيٌّ عنها للذريعة لا لذاتها. وفي المأمورات: أداء الأمانات والديون والحقوق إلى أصحابها واجب وجوبَ مقاصد، ومأمور به لذاته، أما كتابتها والإشهاد عليها فمأمور به أمرَ وسيلة؛ أي مأمور به لغيره لا لذاته.
واعتبار مقاصد الشريعة يتطلب التفريق بين هذين النوعين من أحكامها؛ أي بين ما هو مأمور به أو منهيٌّ عنه لذاته، وما هو مأمور به أو منهيٌّ عنه لغيره؛ إذ تُبنى على هذا التفريق نتائج وآثار واسعة في فقه الدين وتنـزيل أحكامه. فمن ذلك: أن ما كان من قبيل الذرائع والوسائل، يُعدُّ أخفض رتبة وأقل لزوماً مما هو من قبيل المقاصد. فعناية الشارع بالمقاصد أعظم من عنايته بالوسائل. وترخيصه في الوسائل أكثر من ترخيصه في المقاصد.

ومن ذلك أيضاً: أنَّ ما حُرِّم سداً للذريعة يباح للمصلحة الراجحة. وفي هذا حجة للفتاوى التي تسهِّل على البنوك الإسلامية في بعض المعاملات التي ليست محرمة لذاتها، وإنما منعت سداً للذريعة، إذا كانت فيها مصلحة راجحة واضحة، كالسماح ببيع ما لم يقبض، إذا احتيج إليه في حالات محددة يقدرها أهل الفتوى. وفي هذا أيضاً حجة للآراء الفقهية التي تجوِّز تأجيل البدلين بالمقدار الذي يلبي احتياجات المؤسسات الإنتاجية، والخدمية العامة، من المواد اللازمة للإنتاج والخدمة لفترات طويلة، يتعذر معها شراء هذه المواد بثمن معجل، وتخزينها طوال هذه الفترات.

4. مراعاة المقاصد العامة للشريعة عند كل تطبيق جزئي، حتى يكون منسجماً معها:

هذا الوجه من وجوه اعتبار المقاصد هو الأكثر حظوة بالعناية، حتى لَيبدو وكأنه هو الوجه الوحيد لإعمال المقاصد واعتبارها. ويؤكد ذلك ما جاء في توصية ندوة (البركة) السابق ذكرها، وهو: “إن مقاصد الشريعة التي تتمثل في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، بما يؤدي إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، سواء أكان ذلك في الضروريات أم الحاجيات أم التحسينيات، جعلها الشارع إطاراً لضمان سلامة الاجتهاد بشروطه، وضبط الاستنباط… .” ويدخل هنا مراعاة الآثار والانعكاسات الإيجابية أو السلبية لأي فتوى أو اجتهاد فقهي، على حفظ الضروريات الخمس التي هي عمدة الشريعة، وعلى أخلاق المجتمع وسلوكه وعاداته.

5. مراعاة المقاصد الخاصة بالمجال التشريعي الذي تنتمي إليه مسألة البحث:

ذُكر من قبل أنواع المقاصد، وأنها عامة وخاصة وجزئية، وأنه يجب استحضارها جميعاً واعتبارها عند الاستنباط والترجيح والتنـزيل. وهذا العنصر يقتضي مراعاة المقاصد الخاصة بمجال النظر والاجتهاد لكل مسألة. فإذا تعلق الحكم المطلوب بالعبادات، وجب الالتفات إلى مقاصد العبادات وخصائصها التشريعية. وإذا تعلق بالسياسة الشرعية والولايات العامة، لزم الاحتكام إلى مقاصد الشرع وهديه فيها. وهكذا في مقاصد العقوبات، ومقاصد المناكحات، ومقاصد البيوع والمعاوضات. وهذا لا يغني عن مراعاة المقاصد العامة، والمقاصد الجزئية للنصوص الخاصة المعتمدة في المسألة.
وفي مجالنا: يمكن عدّ مقصد حفظ المال ومنعِ تبذيره، عنصراً مرجحاً للتشديد على بعض الديون الاستهلاكية غير الضرورية، وعنصراً مرجحاً للتخفيف على الديون الاستثمارية التنموية؛ لأن الأولى مضادة لقصد الشارع في حفظ المال، والثانية محققة لمقصوده، خادمة له.

6. مراعاة المقاصد عند إجراء الأقيسة:

إذا كانت مراعاة المقاصد لازمة عند فهم النصوص الشرعية والاستنباط منها، فإنّ ذلك لازم من باب أولى عند إجراء الأقيسة والاستنباط بوساطتها. وإذا كان استحضار المقاصد يعصم من آفات السطحية والـحَرْفية والتجزيئية في فهم النصوص وفقه أحكامها، فهو في إجراء الأقيسة آكد وأوجب، نظراً لكثرة ما تُجرى تلك الأقيسة بغير شروطها، وتوضع في غير مواضعها. وقد أجاد ابن القيم وأبلى البلاء الحسن، في بيان حالات كثيرة أُسيء فيها استعمال القياس، فأوقع أصحابَه في معضلات، أقَلّها لجوؤهم إلى القول بأن في الشريعة أحكاماً جاءت على خلاف القياس. والحقيقة أن الشريعة إنما تخالف الأقيسة الفاسدة، التي تتم بمعزل عن حِكَم الشريعة ومقاصدها. 
وهروباً من الوقوع في الظاهرية اللفظية أو القياسية، فإنَّ كثيراً من العلماء سلكوا مسلكا استدلالياً أطلقوا عليه اسم “الاستحسان”. وبغض النظر عن النقاشات والمساجلات اللغوية والفنية حول مصطلح “الاستحسان”، ومدى حجيته، فإنّ مما لا شك فيه أنّ للأئمة والفقهاء المجتهدين، مسالكَ اجتهادية يلجؤون إليها، ويسلكونها كلمّا واجهوا استنتاجات وتخريجات لفظية أو قياسية، تجافي مقاصد الشريعة، وتَخرِم مصالحها وقواعدها القطعية. وقد كان لفظ “الاستحسان” هو الاصطلاح الجامع الأكثر استعمالاً للتعبير عن هذه المسالك، التي ليست في الحقيقة سوى مسالك مقاصدية استصلاحية. وقد نقل ابن حزم، وغيره، قولة مهمة وقوية للإمام مالك، عن “أصبغ بن الفرج قال: سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أغلبَ من القياس.” 
قال الشاطبي: “ومقتضاه [أي الاستحسان] الرجوعُ إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإنّ من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشَهِّيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمراً، إلا أنّ ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك.”

7. مراعاة مطلق المصالح التي جاء بها الشرع:

وأعني هنا كلَّ ما يدخل في باب المصالح المرسلة بوصفها مقاصد شرعية، فلا بدّ من جعلها ضمن الأدلة والمرجِّحات، كلّما كان لها مكان وأثر في موضوع البحث والاجتهاد، وذلك كأن نُدخل في الحسبان –عند تقرير بعض الاجتهادات والاختيارات الفقهية الممكنة– حاجة الأمة ومصلحتها في إنجاح تجربة المصارف الإسلامية وتعميمها وتقوية مكانتها، وأن نراعي الآثار الاجتماعية والتنموية للسياسة التمويلية، عند النظر في الأحكام المؤثرة فيها سلباً وإيجاباً. 
ومن ذلك أيضاً مسألة الدخول في الشركات ذات الغرض المشروع، ولكنها تتعامل أحياناً بالحرام اقتراضاً أو إقراضاً. فالذين أجازوا ذلك بشروطه، معتمَدُهُم الأساسُ التيسيرُ والمصلحةُ العامة الداعية إلى ذلك، سواء حاجة المجتمع إلى قيام هذه الشركات الخدمية مثل شركات الكهرباء والماء والاتصالات، أو حاجة صغار المستثمرين إلى وعاء استثماري يمكِّنهم من استثمار مدخراتهم الصغيرة.

8. اعتبار المآلات والعواقب:

إذا كان الالتفات إلى مقاصد الأحكام والمصالح المرتبطة بها أمراً لازماً، لكي نحفظ مقاصد الشارع في أحكامه، فإنَّ كثيراً من الأفعال والتصرفات لا تقف مصلحتها أو مفسدتها عند وقت الحكم عليها، بل تكون لها مآلات وعواقب وآثار مستقبلية، في الزمن القريب أو البعيد. فقد يكون الأمر مصلحة في بدايته وحاله، ثم يصبح مفسدة في عاقبته ومآله. وقد يكون عكس ذلك. وقد يكون التغير المآلي في الحجم والأثر. وعليه، فالنظر إلى المقاصد والمصالح لا بدّ أن يستشرف تلك المآلات والعواقب المتوقعة ويعتبرها بحسب سنن الله تعالى، وما هو معهود في خلقه. فالحكم والاجتهاد يبنى على اعتبار الحال والمآل معاً. قال الشاطبي: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تُستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصد فيه. وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أُطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغِبّ، جارٍ على مقاصد الشريعة.” 
ومن أمثلته في موضوعنا: الفتوى بجواز تحمُّل ما تبقى من المعاملات والالتزامات غير الشرعية وتنفيذها مؤقتاً، عند شراء مؤسسة مالية ربوية قصد تحويلها إلى مؤسسة إسلامية. فهذه الفتوى منظور فيها إلى المآل المرتقب، وهو النقلة النوعية للمؤسسة الربوية، وما ستصبح عليه من خضوع لأحكام الشريعة.

رابعاً: البنوك الإسلامية ومقاصد الشريعة

هناك آمال كثيرة ومطالب كبيرة تناط بالمصارف الإسلامية وتُدعى إلى تحقيقها. فهناك من ينتظر منها تحقيق مقاصد الشريعة جملة وتفصيلاً، وثمة من يطالبها ببناء الاقتصاد الإسلامي وقيادته، وهناك من يدعوها لتحقيق التنمية والقضاء على الفقر بين المسلمين، وبعضهم يستعجلها في التميز والاستقلالية عن النموذج المصرفي التقليدي. وأظنّ أن أكثر هذه المطالب ليس في مقدور المصارف الإسلامية، وبعضها ليس من شأن البنوك التجارية أصلاً، بل هو من شأن الحكومات ووزارات الاقتصاد والمالية، ومن شأن البنوك المركزية والبنوك الاستثمارية. ونحن نعلم أنّ تجربة المصارف الإسلامية نبتت وشقَّت طريقها –عموماً- في ظل أنظمة وتشريعات ومؤسسات مالية ومصرفية مناوئة لها متبرمة منها. كما أنّ أمامها عوائق وصعوبات ذاتية وخارجية عديدة ومتنوعة. فمن الإشكالات والمفارقات التي تواجهها المصارف الإسلامية، أنَّ كثيراً من الحلول الممكنة أمامها، هي إما حلول شرعية لا يقبلها القانون أو الواقع الاقتصادي، وإما حلول قانونية لا يقبلها الشرع أو النظر الفقهي.
ومن المعلوم أنّ معظم المصارف الإسلامية القائمة هي مصارف تمويلية تجارية، تقوم على موارد مالية صغيرة ومتوسطة تنتظر أرباحاً في آجال قصيرة أو متوسطة، وهذا ما يحول دون دخولها في مشاريع تنموية حقيقية تتطلب موارد كبيرة، وآجالاً طويلة لتحقق عوائد وأرباحاً. وهذا ما يمكن أن تقوم به البنوك الاستثمارية الإسلامية المتخصصة، لكنها – للأسف– تكاد تكون معدومة في أمتنا. فلا بدّ أن تتجه الحكومات وكبار المستثمرين إلى هذا النوع من المصارف المتخصصة في المشاريع التنموية، مما يسهم مباشرة في تحقيق مقاصد الشريعة في الأموال.
وينبغي أن نتذكر دائماً أن النموذج المصرفي القائم، وفكرة البنوك في أصلها وفلسفتها فكرة غير إسلامية؛ أي إنّها لم تنبثق من الشريعة الإسلامية ومقاصدها وقواعدها. والتجربة الإسلامية الجارية اليوم في هذا المجال، إنما تحاول تلطيف النظام المصرفي الربوي، وترويضه وتكييفه مع الشريعة ومقاصدها قدر الإمكان. وهذا شيء جيد وريادي، ولكنه لا يستطيع أن يتحمل كل تلك المطالب الطموحة والأعباء الثقيلة، ولا ينتظر منه –في الأفق المنظور– أن يكون الأداة الرئيسية للتنمية الاقتصادية. فلا بدّ من مؤسسات تنبثق من صميم الشريعة ومقاصدها، وتولد من رحم المجتمعات الإسلامية وثقافتها واستعداداتها.
ولنأخذ على سبيل المثال مقصداً شرعياً لم يذكر بوضوح واستقلال فيما ذُكر –ونقلتُه– من مقاصد الشريعة في الأموال، وهو ما يمكن تسميته بالاستثمار الأخروي للمال، أو التعبد بالمال. فالفكر الاقتصادي والمالي اليوم يرى أنّ الأموال التي لم تُدَّخر في البنوك، ولم تدخل في الأعمال الاستثمارية، يراها ضائعة معطلة عديمة الفائدة. وهذا صحيح، لكن الاستفادة من الأموال المدَّخرة لا تتوقف ولا تمر –عندنا نحن المسلمين– بالضرورة على البنوك والقروض الربوية، بل يمكنها أن تمر عبر طرق أخرى، ومنها القروض اللاربويةواللاربحية؛ أي القروض الاحتسابية. 
نحن نذكر دائماً أنّ الإسلام حرّم الربا لما فيه من ظلم واستغلال، وهذا مقصد شرعي لا غبار عليه، ولكن قلما يُذكر ما هو أهم منه في حِكمة تحريم الربا ومقاصده؛ ألا وهو: دفع الناس إلى أن يستثمروا أموالهم ويستعملوها بطرق أخرى، ومنها أن يتقارضوا من غير ربا. فالناس لا يستغنون عن التقارض، والشرع قد أغلق دونهم باب التقارض الربوي، والنتيجة المقصودة: أنهم مضطرون ومدعوون –شرعاً- إلى التقارضاللاربوي. 
فهذا شبيه بتحريم الزنا؛ فمن مقاصده دفع الناس واضطرارهم إلى الحل الوحيد المتبقي، وهو الزواج وما يتبعه. فالناس –رجالاً ونساء– محتاجون ومضطرون إلى تلبية شهواتهم الجنسية الغريزية، وباب الزنا مغلق تماماً، فلا يبقى أمامهم إلا الزواج ومؤسسته ونظامه. فالحل الإسلامي الحقيقي، المحقِّق تلقائياً لمقاصد الشريعة في هذا الباب، هو الزواج الشرعي: بنشر ثقافته، وفتح أبوابه، وتوفير شروط نجاحه، وإقامة المؤسسات الداعمة له مادياً ومعنوياً، قبل قيامه وبعد قيامه.
فالشرع حين يغلق باباً أو أبواباً، ثم يفتح بجانبها أبواباً أخرى، فمقصوده أن يلج الناس الأبواب المفتوحة وينطلقوا فيها، وليس فقط أن يُمنعوا أو يمتنعوا من ولوج الباب المغلق، وأن يمكثوا حيث هُم. فعدم ولوج باب الربا وما فيه من ظلم، إنما هو بمثابة نصف المقصد الشرعي، وأما تمام المقصد فهو ولوج الباب الآخر: التعامل اللاربوي، ومنه التقارضاللاربوي.
والمشكلة المعترضة هنا معروفة، وهي قلة إقبال الناس على قرض شيء من مدخراتهم وفائض أموالهم. وسبب المشكلة أيضاً معروف، وهو ما تتعرض له القروض الحسنة من تماطل المقترضين وتعسفاتهم على من أحسنوا إليهم. فمن النادر أن تجد مقترضاً يأتي في اليوم المحدد، حاملاً كامل المبلغ الذي اقترضه، فيسلمه إلى صاحبه ويشكره ويدعو له. فالجاري به العمل –للأسف– هو ألا يعاد القرض إلى صاحبه إلا بطلب وإلحاح، مع المماطلة والتسويف مرة أو مرات، أو رد المبلغ منقوصاً أو مقسَّطاً، أو الذهاب إلى القضاء ومتاعبه، أو اضطرار الدائن إلى التخلي عن حقه أو جزء منه. ومن هنا يقرر صاحب المال ألا يقرض أحداً أبداً، ثم تصبح هذه هي ثقافة المجتمع وسلوكه المتبع. فهذه المشكلة: المماطلة وإخلاف الوعود، هي مشكلة تقتل روح الإحسان والإرفاق لدى الناس. فهل لهذه المشكلة من حل؟
نعم لكل مشكلة حل أو حلول. ومن بين هذه الحلول إيجاد مؤسسات مستقلة ومتخصصة. تكون وسيطاً بين المقرضين والمقترضين، تحظى باعتراف الدولة ودعمها وضمانها. وهذه المؤسسات هي مؤسسات القرض الحسن؛ أي القرض اللاربوي. وتتخصص هذه المؤسسات في تلقي الأموال المرصودة من أصحابها للقروض الاحتسابية، ثم تقوم بتقديم قروض لاربوية للمحتاجين المستحقين، وتضمن إعادتها لأصحابها في الآجال المحددة، أو متى طلبوها، من غير زيادة ولا نقصان. فيستطيع كل واحد أن يودع لدى المؤسسة مبلغاً من المال، ويصرح –مثلاً- أنه يريد استعادته بعد ستة أشهر فصاعداً، أو أنه يودعه لأجل غير مسمى، وأنه سيطلبه متى احتاج إليه.
فهذا باب سيُفتح أمام كل من لهم سَعة وفائض من المال. فكما بإمكانهم أن يستثمروا أموالهم بأنفسهم، أو مشاركةً أو مضاربة مع غيرهم، بإمكانهم جعلها ودائعَ استثمارية لدى البنوك الإسلامية، وبإمكان من شاء منهم أن يستثمر فائض ماله أو جزءاً منه في البر والإحسان والثواب، فيدفعه لمؤسسة القرض الحسن، وهي تضمن له –بضمان الدولة– إعادته من غير نقص ولا بخس، ولا مماطلة ولا معاناة. وينبغي ألا يكون لهذه المؤسسات أي غرض ولا أي نشاط ربحي، بل تظل مؤسسة إحسانية صرفة. كما أن من شاء أن يُسَبِّلَ مبلغاً من ماله، ويجعله وقفاً على القروض الحسنة، فله ذلك. وهنا يتعين على المؤسسة فتح صندوق أو حساب خاص بالأموال الموقوفة للقرض.
وهكذا يستطيع كل محتاج أن يتقدم إلى المؤسسة بطلب قرض لمشروعه المهني أو السكني، أو لنفقات ضرورية عرضت له. وللمؤسسة أن تطلب منه كل البيانات والإثباتات والضمانات اللازمة، ثم تدرس طلبه، وتقرر استحقاقه وأهليته للقرض المطلوب، أو لجزء منه، أو عدم استحقاقه، أو عدم استيفائه للشروط المعتمدة. والمستقرض يمكن أن يكون شخصاً اعتبارياً، كالشركات وغيرها من المؤسسات. ويمكن أن تعطى الأولوية للقروض الاستثمارية التنموية.
المهم هنا: هو أنّ مؤسسات القروض تكون لها القدرة على ضمان المبالغ المودعة وتسديدها لأصحابها في الوقت المحدد، أو في أي وقت يطلبونها. وتكون لها الضمانات والوسائل القانونية والقضائية لاستعادة الديون من المقترضين، طوعاً أو كرهاً، بما في ذلك الحجز على ممتلكات الممتنعين والمماطلين، وإيقاع العقوبات المالية والبدنية عليهم. وأما في حالة الإعسار الحقيقي للمدين، فالدائن لا يتضرر بذلك ولا يتأثر، لأن المؤسسة قادرة على أن تسدد له في جميع الأحوال.
وأما نفقات هذه المؤسسة وجهازِها التنفيذي، فأمامها عدة موارد ممكنة، منها: دعم الدولة لها، بوصفها مؤسسة اجتماعية عمومية. أو اللجوء إلى تبرعات المحسنين، أو الغرامات المفروضة على المماطلين غير المعسرين. أو أخذ عمولة خفيفة من المقترضين، مساهمة منهم في المصاريف، أو الأخذ من سهم الغارمين من الزكاة، تقابل به ديون المقترضين المعسرين العاجزين نهائياً عن السداد.

خامساً: مدى اعتبار المقاصد في فتاوى الهيئات المالية الإسلامية

لا شكّ في أنّ التجربة الحديثة للمصارف الإسلامية قد أحدثت حيوية كبيرة في فقه الأموال والمعاملات المالية، وأنتجت حركية اجتهادية لا مثيل لها في المجالات الأخرى للفقه الإسلامي. وهذه الجهود الفقهية المواكبة للتجربة الميدانية قد تضمنت قدراً من الاجتهادات الجديدة الملائمة لمتطلبات المرحلة وظروفها. ومن ذلك الالتفاتُ إلى مقاصد الشريعة والاحتكامُ إليها. ومن هذه الاجتهادات المقاصدية:

1. اعتماد الصيغة التمويلية المعروفة ببيع المرابحة للآمر بالشراء. وقد تطَلَّب تخريجُ هذه المعاملة بصيغتها الجديدة، ووضعُها موضع التنفيذ، جهداً فكرياً وعملياً، واجتهاداً فقهياً لا يستهان بهما. ومن ذلك الردُّ على المعترضين وتجاوزُ شبهاتهم وتشكيكاتهم. 
وأما وجهها المقاصدي، فمنه أن اعتمادها في بدايات التجربة المصرفية الإسلامية، قد شكَّل فتحاً ومدداً وتثبيتاً لتلك التجربة الوليدة، الغريبة يومئذ. وهذا مقصد كبير قد نُظر إليه في إنتاج صيغة المرابحة وتأسيسها تأسيساً شرعياً متماسكاً قابلاً للتنفيذ في العمل المصرفي الحديث. كما أن التمويل بصيغة المرابحة يختلف اختلافاً جوهرياً عن التمويل الربوي، ويحقق مقصود الشرع في مزج المال بالعمل المنتج المفيد. فالمرابحة ليست قرضاً معجلاً بأكثر منه مؤجلاً فحسب، بل هي عملية بيع وشراء حقيقيين، تنتهي باستقرار العين المشتراة عند طالبها المحتاج إليها.
وعلى الرغم من أن الشيخ صالح الحصين يعد من أشد المنتقدين لمسار المصارف الإسلامية، ويصفها بالصورية وقلة الجدوى، فإنه يقول: “إن الربا ظلم من حيث إن المرابي يأخذ الزيادة عن رأس ماله دون مقابل. وهذا يتضح بالمقارنة بين القرض الربوي والبيع الآجل، فالبائع مثلاً يقدم قيمة اقتصادية مضافة، تتمثل في حيازة السلعة وتخزينها وتسويقها، وهو يقوم بهذا الدور بالقوة إن لم يكن بالفعل. أما المرابي فلا يؤدي عملُه إلى إنتاج أي قيمة مضافة تستحق أن تكون مقابلاً للربا؛ أي الزيادة التي يأخذها من المدين.” ومعلوم أن بيع المرابحة الذي تقدمه البنوك الإسلامية هو في غالب أمره بيع بأجل.

2. ومن المعاملات التي ابتكرتها المصارف الإسلامية، وهي موافقة لمقاصد الشريعة ومحققة لها: ما يعرف باسم “المشاركة المتناقصة”. وهي عبارة عن شركة حقيقية يتم تمويلها من الطرفين (أي البنك والعميل في حالتنا)، لكن “يتعهد فيها أحد الشريكين بشراء حصة الآخر تدريجياً، إلى أن يتملك المشتري المشروع بكامله… .” 
وفي شأن تمويل العقارات والمساكن بصيغة المشاركة المتناقصة، أفتت ندوة (البركة) في دورتها السادسة بجواز تسجيل المسكن باسم الشريك الذي سيؤول إليه “على أساس الثقة”، كما أجازت تحمله وحده تسجيل الملكية وما يتبعه من نفقات، على أساس أنه “سيكون هو المالك في نهاية العملية.” وفي هذا مراعاة للمقاصد والمآلات، دون الوقوف عند الألفاظ والشكليات.

3. ومن الفتاوى التي اضطر إليها المفتون لنجدة المصارف الإسلامية وإنصافها: إفتاؤهم بتغريم المدين المماطل من غير عذر مقبول، وإن كانت الآراء فيها لا تزال منقسمة إلى ثلاث فرق:

– من يمنعون التغريم مطلقاً، بوصف ذلك نوعاً من الربا.

– من يرون تغريمه، لكن لفائدة جهة خيرية، وليس لفائدة الدائن، هروباً من الوقوع في الربا.

– من يجيزون تغريمه دفعَ تعويض للدائن، يكون على قدر الضرر الفعلي الناجم عن تماطله، إضافة إلى نفقات الدعوى، إذا تم اللجوء إلى القضاء.

ولا شكّ في أنّ القول الأخير هو الأبعد عن الظلم والتعسف، والأضمن للعدل وإعطاءِ كل ذي حق حقه، وهو الأضمن أيضاً لنجاح المصارف الإسلامية واستقرار معاملاتها. وكل هذا إنّما مرجعه النظر إلى مقاصد الشريعة العامة والخاصة، وفي مقدمتها منع الظلم والتعسف. والشريعة لا ترضى أن يكون هناك ظلم واستخفاف بحقوق الناس، ثم يقال: ليس عندنا ما نفعله؛ لأنّنا نخشى الربا، أو نخشى التشبه بالربا. فالظلم لا بدّ من رفعه، وصاحب الحق لا بد من إنصافه. وقد قال الإمام الجويني: “كليات الشريعة دالّة على أنّ الأحكام لا تبقى مشكلة لا فيصل فيها.”

ومن الفتاوى الصادرة بجواز أخذ المصرف الإسلامي تعويضاً مالياً من مدينه المماطل بغير عذر: فتوى الهيئة العليا للرقابة الشرعية للجهاز المصرفي والمؤسسات المالية بالسودان، وهي برقم 15|1992. ومما جاء في هذه الفتوى:

“أولاً: استعرضت الهيئة في سبيل إصدار الفتوى أعلاه الدراسات والآراء والفتاوى الصادرة في هذا الموضوع ومعتمدها:

1. قوله صلى الله عليه وسلم:

أ‌. “مطل الغني ظلم

ب‌. “لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته

ت‌. “لا ضرر ولا ضرار

2. والقاعدة الفقهية: الضرر يزال.

ثانياً: قبلت الهيئة العليا مبدأ التعويض عن الضرر الناشئ عن مطل المدين المليء، إعمالاً للنصوص والقاعدة الفقهية أعلاه. 
– توصي الهيئة العليا للرقابة الشرعية جهات الاختصاص بمنع المطل وتجريمه في القانون الجنائي، بحيث تتضمن العقوبة:

أ‌. غرامة رادعة.

ب‌. تعويضاً للمتضرر…”

ومما جاء في حيثيات الفتوى:

“ظلت المصارف الإسلامية بالسودان تجأر بالشكوى من تمادي العملاء القادرين في عدم سداد التزاماتهم. وأدى ذلك إلى مطالبة اتحاد المصارف بالسودان للهيئة العليا بمراجعة فتواها السابقة لعظم حجم التعثر وللكساد في سوق العقارات، ولاعتراضات المحامين الكثيرة، مما أطال فترة التقاضي، وتضرر المصارف بحجب جزء كبير من مواردها بسبب المطل. 
ثم استشعر البنك المركزي خطر هذه المسألة بسبب ارتفاع الديون المتعثرة في المصارف بالسودان، مما أدى إلى عدم اضطلاع الجهاز المصرفي بدوره في تمويل قطاعات الاقتصاد المختلفة بالدرجة المطلوبة. وصارت التهم توجه للقطاع المصرفي باعتباره عاجزاً عن أداء دوره في توفير التمويل… .”

سادساً: الوجه الآخر في فتاوى المصارف الإسلامية

وأعني بالوجه الآخر الجانب السلبي لعلاقة الإفتاء المصرفي بمقاصد الشريعة. وهو يتمثل –إجمالاً- في ضعف إعمال المقاصد وتأخر العناية ببحثها.

أمَّا تأخُّر العناية ببحث مقاصد الشريعة وأثرها في الإفتاء، فيكفي ما أشرت إليه من أنَّ الموضوع لم يدرج على جدول أعمال المؤسسات الإفتائية إلا مؤخراً، في سنتي: (2007) و(2008). ولم يتجاوز كونه محوراً ضمن محاور اللقاء.
وأمَّا من حيث الاعتبار الفعلي للمقاصد في مسيرة المصارف الإسلامية وهيئاتها الإفتائية، فهو ضامر وهامشي. وأكبر شاهد على ذلك كتاب (المعايير الشرعية)، الذي يعد بمثابة دستور المصارف الإسلامية، ويتضمن حصيلة الفتاوى والاجتهادات الخاصة بهذا المجال. ففي الوقت الذي نجده مثقلاً بمئات الشروط والضوابط والاحترازات والمحظورات، لا نجد إلا ما يشبه الفلتات من الالتفاتات المقاصدية. ونجد انقلاباً غير محمود في مسألة (الشروط). فشروط الفقهاء تتكاثر وتطغى، وشروط المتعاقدين تصادر وتلغى!. والحقيقة أنّ الصواب هو عكس ذلك: فشروط الفقهاء لا تصح إلا بدليل، لأنّها تتم باسم الشرع وتُّعدُّ أحكاماً شرعية. وهي تقيد الإطلاق الشرعي وتخصص العموم الشرعي، فلا بدَّ لها من دليل شرعي صحيح واضح، وإلا فهي باطلة. فالمطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد دليل شرعي بتقييده، والعامُّ يبقى على عمومه حتى يرِدَ دليل شرعي على تخصيصه. وأما شروط المكلفين والمتعاقدين في معاملاتهم، فالأصل فيها الصحة والجواز، والمسلمون عند شروطهم، إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً. فلا يجوز منعها إلا بدليل شرعي. وهذا هو الوضع السوي الذي يتناسب مع قصد الشارع في إطلاق حرية المبادرة والابتكار، والكسب والتصرف، والتعامل والتعاون.
ولا يخفى أنَّ نـزعة بعض الفقهاء والمتشرعين إلى زيادة الشروط والاحترازات وتكثيرها على تصرفات العباد، إنَّما هو تقييد وتضييق على حريتهم التي وهبهم الله إيَّاها وفطرهم عليها. يقول ابن عاشور: “وإن موقف تحديد الحرية موقف صعب وحرج ودقيق على المشرع غير المعصوم، فواجب ولاة الأمور التريُّث وعدم التعجل، لأنَّ ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد وجلب المصالح الحاجية من تحديد للحرية يعد ظلما.”

ومن وجوه الخلل وأسبابه لدى أصحاب (المعايير الشرعية)، أنهم انهمكوا في تسطير المعايير الجزئية التطبيقية، وأغفلوا تسطير المعايير الكلية الجامعة. كما انهمكوا في سدّ الذرائع، حتى نسوا “أن الذريعة كما يجب سدّها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح.” وعلى سبيل المثال، ففي البحث القيم الذي كتبه الفقيه المالي الدكتور حسين حامد حسان بعنوان (مراعاة مقاصد الشريعة ومآلات الأفعال في العمل المصرفي الإسلامي)، نجد مبحثاً بعنوان “المقصد الأول: سد الذريعة وفتحها”، عرَّف فيه سد الذريعة بأنه “المنع من الأمر الجائز في الأصل، في الحالات التي يؤدي فيها إلى ما لا يجوز.” وعرّف فتح الذريعة بأنه “الإذن في الأمر الممنوع في الأصل –لما يترتب عليه من فوات مصالح أو جلب مفاسد– في الحالات التي يؤدي فيها المنع منه إلى فوات مصلحة أهم، أو حدوث مفسدة أشد.” ثم نقرأ بعد ذلك العناوين الفرعية الآتية:


• شروط سد الذرائع وفتحها. 
• المعيار الموضوعي لسد الذرائع وفتحها.
• أدلة اعتبار سد الذرائع وفتحها.
• تطبيقات سد الذرائع وفتحها.

وتحت كل هذه العناوين نجد الكلام على (سد الذرائع) ولا نجد شيئا –ولا كلمة ولا مثالاً- عن (فتح الذرائع)، الذي لم يتجاوز العناوين! فهل معنى هذا أن سد الذرائع قد طغى على فتحها عند فقهاء المالية الإسلامية؟
يبدو لي أنَّ إخواننا الفقهاء المفتين يخيم عليهم شبح الربا، فحيثما لاح لهم أو شُبِّه لهم بادروا إلى الذرائع يسدونها وإلى الاحتياطات يكثرونها. وهذا يذكّرني بقول عمر رضي الله عنه: “لقد خفت أن يكون قد زدنا في الربا عشرة أضعافه مخافته.” بمعنى أنّ المحرمات الاحتياطية الذرائعية –خوفاً من شبح الربا– هي التي أصبحت أو ستصبح أضعافاً مضاعفة عما حرَّمه الله تعالى.
ومن المسائل التي تحكَّم فيها الخوف من شبح الربا، مسألة التضخم والانخفاض في قيمة النقود. فجمهورفقهائنا متمسكون بعدم اعتبار هذا التغير وعدم تأثيره في الديون المستحقة بعد الانخفاض، ما قلَّ منه وما كثر. وعلى هذا فمن أقرض غيره مبلغاً من النقود، ثم فقدت العملة نصف قيمتها، أو نصف قوتها الشرائية، أو ثلثها أو نحو ذلك، فلا يستحق إلا المبلغ الذي أعطاه، مهما كانت درجة خسارته. 
وهذه المسألة عالجها الشيخ ابن بيه في مواضع من كتابه (مقاصد المعاملات)، ورجّح فيها صحة مراعاة الانخفاض وأخذِه بالحسبان عند سداد الدين، وارتأى إلحاقَ أحكامها بأحكام الجوائح. وهو في هذا مستنِد إلى مقصدين شرعيين هما: العدل، ونفي الضرر. ولم يُخْفِ الشيخ امتعاضه من موقف المجامع الفقهية في هذه المسألة، لكونها “لا تزال جامدة على الأصل العام بأن الديون تُقضى بمثلها، دون نظر في التقلبات… .”

ومن الأمثلة الدالّة على ضعف اعتبار المقاصد عند بعض المفتين وهيئات الفتوى لدى البنوك الإسلامية، الفتاوى العديدة بإباحة التورُّق المصرفي، أو ما اصطلح على تسميته بالتورُّق المنظّم. وقد صدرت بإباحته فتاوى عديدة فردية وجماعية، قبل أن يبدأ تدارك الأمر مؤخراً. ومن ذلك –أو في مقدمة ذلك– فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة، رجب 1419 ﻫ/أكتوبر 1998م، التي جاء فيها: 
أولاً: إن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع، للحصول على النقد (الورِق).

ثانيا: إن التورق هذا جائز شرعاً، وبه قال جمهور العلماء، لأن الأصل في البيوع الإباحة، لقول الله تعالى: “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (البقرة: ٢٧٥)، ولم يظهر في البيع ربا، لا قصداً ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك، لقضاء دين، أو زواج، أو غيرهما.
والعجيب أنّ المفتين ينفون ظهور الربا في هذه المعاملة “لا قصداً ولا صورة”. ولست أدري كيف يتحقق القصد الاحتيالي إلى جوهر الربا، إذا لم يتحقق في هذه المعاملة المتضمنة شراءً ورَقيا غير مقصود، ثم بيعاً ورقيا غير مقصود، ثم بيعاً ثانياً –ورقياً أيضاً- غير مقصود. ويبقى الشيء الوحيد المؤكد والمقصود، هو الحصول على نقود من البنك، ثم إرجاعها إليه بزيادة بعد أجل.
وأما القول “بأن الحاجة داعية إلى ذلك، لقضاء دين، أو زواج، أو غيرهما،” فليس فيه سوى توريط الناس في الخروج من الدَّين بالدَّين، وهو الطريق المؤدي إلى “الأضعاف المضاعفة”. وأما التورق لأجل الزواج، فلا يلوح منه إلا تشجيع الإسراف والتبذير وإفسادُ الزواج والحياة الزوجية، بجعلها تبدأ بالمهور الفاحشة والولائم المسرفة والديون المرهقة.
وبعد سنوات من شيوع العمل بالتورق لدى عدد من البنوك الإسلامية، بدأ الفقهاء ينتبهون إلى أضراره ومفاسده وخروجه عن مقاصد الشريعة. يقول الشيخ صالح الحصين: “والواقع يثبت أن المصارف الإسلامية بهذا الاتجاه ظلت تقترب من البنوك الربوية شيئاً فشيئاً. وإن أوضح شاهد لذلك ما انتهت إليه المصرفية الإسلامية من اعتماد عمليتي (تيسير الأهلي)، و(التورُّق المبارك)، بل إنه من الناحية الفقهية يستحيل على الفقيه دون أن يخادع نفسه، أن يدعي وجود فارق بين هاتين العمليتين، والاحتيال المحرم على الربا.” 
وفي سياق هذا الانتباه والتدارك أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي –التابع لمنظمة التعاون الإسلامي– في دورته 19، جمادى الأولى 1430ﻫ/أبريل 2009م، قراره رقم179 (5|19)، الذي جاء فيه:

1. التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل، من أجل بيعها نقداً بثمن أقل غالباً إلى غير من اشتريت منه، بقصد الحصول على النقد. وهذا التورق جائز شرعاً.

2. التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل، يتولى البائع (الممِّول) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره، أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالباً.

3. التورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها، مع كون المستورق هو المؤسسة، والممِّول هو العميل.
لا يجوز التورق المنظم والعكسي، وذلك لأن فيهما تواطؤاً بين الممِّول والمستورقِ، صراحة أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة، وهو ربا.”

خاتمة:

خلاصة ما يستفاد من هذا البحث يمكن جمعه في العناصر الآتية:

1. مراعاة مقاصد الشريعة في مجال الفتاوى المالية، وفي غيره من مجالات الاجتهاد والإفتاء، ليس نافلة أو تكملة لمستندات الاستنباط والترجيح فحسب، وإنما هي أساس من أسس الاجتهاد والإفتاء، وشرط من شروط صحتهما. فالشريعة المراد فهمها واستنباط أحكامها تتشكل من: لفظ ومعنى، ونص وفحوى، وظهر وبطن، وحُكم وحِكمة، وتعبد ومصلحة، وحال ومآل، وجزئيات وكليات. وكل هذا إنما يجتمع ويتكامل مع استحضار المقاصد وإعمالها.

2. إعمال المقاصد في الاجتهاد والإفتاء لا يقتصر –كما يُظَنُّ- على الالتفات والإشارة إلى المصالح والمقاصد العامة من حين لآخر، لتزكية ما تقرَّر ولتقوية جانبه، بل له وجوه ودرجات عديدة، تحيط بعملية الاجتهاد وتوجِّهها، وترافقها في كل مراحلها وخطواتها.

3. فقه المعاملات والفتاوى المالية بدأ يشهد اهتماماً متزايداً بمقاصد الشريعة، سواء لدى الفقهاء الأفراد أو لدى المجامع والمؤسسات المتخصصة، وبدأت تظهر لذلك آثار تطبيقية سديدة. ولكن هذا الاهتمام ما زال بحاجة إلى مزيد من التعمق ومزيد من التوسع، سواء على صعيد الدراسات النظرية التأصيلية، أو على صعيد الاجتهادات الفقهية التطبيقية.

4. الاعتماد المعمق والموسع على فقه المقاصد في مجال المال والاستثمار والاقتصاد والصيرفة، من شأنه أن يُمَكِّن من إخراج تجربة المصرفية الإسلامية من ربقة الرؤية الرأسمالية الغربية، التي نشأت تلك التجربة في أحضانها، وحاولت الإصلاح والتغيير والتطوير من داخلها، و يُمَكِّن من إعادة تأسيسها وبنائها على رؤية إسلامية مقاصدية، تنطلق من وظيفة المال والاستثمار، ومن المقاصد الشرعية –الاقتصادية والاجتماعية– للمصارف الإسلامية.

5. تطرق البحث –عرَضاً- لعدة قضايا أصولية مقاصدية، تحتاج إلى بحوث مفصلة جامعة، عسى أن تجد من يقوم بها، منها: دراسة تعليلية للأحاديث والآثار الواردة في المعاملات المالية، ودراسة في التفريق بين المحرم لذاته والمحرم لغيره، وبين الواجب لذاته والواجب لغيره، مع ما يحتاجه ذلك من معايير، وما ينبني عليه من آثار.

المصدر: موقع إسلامية المعرفة — عدد 070 — بحوث و دراسات

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى