أبحاثأبحاث دعوية

الصحابة في القرآن الكريم..

الصحابة في القرآن الكريم

القرآن الكريم كتاب هداية لا كتاب فلسفة، وكتاب عمل لا كتاب جدل )إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الاسراء:9)، )قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16).

فالقرآن حين يسرد لنا قصص الأنبياء والصالحين والمصلحين، أو قصص الجاحدين والمتجبرين والمفسدين، وحين يذكر لنا أمما قد خلت وأحداثا مضت، فإنما هو يعلمنا وينورنا ويبصرنا ويرينا بمن نقتدي ونهتدي، وممن نحذر ونعتبر )فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر:2).

ومن هذا الباب حدثنا القرآن الكريم مرات ومرات عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثنا تارة عن مجموعهم، وتارة عن بعض فئاتهم،  وتارة عن أفرادهم وبعض أعيانهم. وحدثنا عنهم في حالات ضعفهم وقوتهم، ونصرهم وهزيمتهم. حدثنا عن إيمانهم وصدقهم، وعن دعوتهم وجهادهم، وعن أخلاقهم ومعاملاتهم. وهو في كل هذا يرشد ويعلم، ويربي ويزكي، وينبه ويوجه.

والقرآن الكريم حين يكثر من الحديث عن الصحابة الكرام، فليس فقط للتنويه بهم والحث على تقديرهم والتأسي بهم، بل هو يقدم لنا ولكافة الأجيال نسخا تطبيقية حية نموذجية للإسلام في مختلف جوانبه، بما يسدد العلم والعمل معًا.

 

 þ مـع الصحابـة فـي إيمانهـم

الصحابة الكرام لم يولدوا – مثلنا- مسلمين، ولم يتلقوا الإيمان من آبائهم وأمهاتهم أو من معلميهم وأساتذتهم، ولا هم نشأوا في أجوائه وبيئته. بل ولدوا ونشأوا على جاهلية آبائهم ووتنية أجدادهم، وعلى العصبية لعاداتهم وموروثاتهم. ومع ذلك، فإن أكثرهم كانوا – كما حكى الله تعالى عنهم- مسارعين إلى تلبية نداء الحق ونداء الإيمان: )رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (آل عمران:193).

وإنما تعثر من تعثر أو تأخر من تأخر منهم لعدم تمكنهم من فرصة الاستماع الهادئ، البعيد عما كان يمارسه زعماء الشرك والجاهلية من ضغط وتضليل وحصار.

ومن السمات التي سجلها القرآن الكريم للصحابة رضي الله عنهم أن إيمانهم كان دائما يزيد ولا ينقص. كان إيمانهم يزيد عند نزول القرآن، وعند نزول المحن.

كما قال تعالى عنهم )وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة:124)، )وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22)، )هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح:4).

وهذا الارتقاء الإيماني المعبر عنه بزيادة الإيمان كان يتم برعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وقع حينما أنزل الله تعالى قوله )لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (البقرة:283).

فقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين “أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر أنفسنا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أتريدون أن تقولوا كما قالت بنوا إسرائيل: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك. (تفسير ابن عطية: المحرر الوجيز 2/530-531) “وقال سعيد بن مرجانة ( تابعي توفي سنة 96): جئت عبد الله بن عمر، فتلا هذه الآية )وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ثم قال: والله لئن أُخذنا بهذه الآية لنهلكن، ثم بكى حتى سالت دموعه وسُمع نشيجه. قال ابن مرجانة: فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)، فنسخت الوسوسة وثبت القول والفعل” (المحرر الوجيز 2/531).

ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة. قال ابن عطية “وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى )وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه.

فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها… وكان في هذا البيان فرَجُهم وكشف كربهم” (2/532).

ومما يتصل بهذه الآية وبموضوعها ويتممه ما جاء بعدها من قوله عز وجل )آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285).

وهذه شهادة جليلة من الله تبارك وتعالى بصحة الإيمان وكماله للصحابة رضوان الله عليهم بعد التسليم والرضى منهم بما أنزل الله.

þ مـع الصحـابـة فـي عبـادتـهـم

لقد خلد لنا القرآن الكريم حالات ونماذج من عبادة الصحابة رضوان الله عليهم، فمنذ وقت مبكر من البعثة المحمدية الميمونة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل بقوله في مطلع سورة المزمل )يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً…) الآيات. ورغم أن الخطاب جاء خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نودي بحاله وصفته آنذاك وهي صفة المزمل، وتأكدت خصوصية هذا التكليف بقوله سبحانه )إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (المزمل: 5 و6).

أقول: رغم هذه الخصوصية فإن الصحابة الكرام كانوا يحرصون على الالتحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ومشاركته في قيام الليل. وهو ما شهد به القرآن الكريم في قوله تعالى )إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ). ولكن الله تعالى أشفق عليهم وخفف عنهم ورحمهم في أعذارهم فقال سبحانه (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ…) (المزمل:20).

وقد كان الصحابة حريصين كل الحرص على ملازمة المجالس النبوية، سواء كانت للذكر أو للتفقه أو للتربية والتوجيه. وقد بلغ من ملازمتهم هذه أن بعض المشركين استنكفوا من مجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم بحضور بعض ضَعَفة المسلمين من الفقراء والعبيد، فطالبوه بإبعادهم وإخلاء مجلسه منهم حتى يجلس إليه أشراف قريش وكبراؤها. ولكن الله تعالى أنزل ما يمنع من ذلك ويزكي هؤلاء الصحابة وملازمتهم لمجالس الذكر والعلم النبوية، فقال سبحانه )وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:52).

 ولقد بلغ من تنويه الله تعالى بالصحابة وبمجالسهم الإيمانية إلى حد أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يكون هو الملازم لهم ولمجالسهم، حيث قال سبحانه وتعالى )وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول “الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم” (المحرر الوجيز لابن عطية 9/290).

ولعل أجمع آية في مدح الصحابة والثناء على صفاتهم الإيمانية والتعبدية والخلقية هي تلك التي نزلت جوابا على تساؤل بعض الصحابيات عن عدم ذكرهن في القرآن كما يذكر الرجال، فأنزل الله تعالى هذه الشهادة الجامعة لأوصاف الصحابة رجالا ونساء، ويدخل فيها من كان مثلهم من المؤمنين والمؤمنات. )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب:35).

فهذه هي الصفات العشر التي استحق بها الصحابة أن يكونوا نجوما يهتدى بها في ظلمات البر والبحر إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة.

          þ مـع الصحـابـة فـي حيـاتهـم

            إيراد القرآن الكريم لمشاهد ووقائع ونماذج من حياة الصحابة يؤدي لنا فائدة مزدوجة؛ فهو من جهة يكشف لنا منزلتهم عند الله تعالى وأنهم كانوا تحت عين رعايته حتى خلد ذكرهم في كتابه المجيد. ومن جهة أخرى فهو سبحانه يقدم لنا نماذج عملية نزداد بها علما وفهما وخبرة وعبرة.

من ذلك من نجده في سورة الحشر في قوله عز وجل )لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 8 و9).

فها هنا نجد ملامح الأسس الصلبة التي قام عليها المجتمع الإسلامي الأول والدولة الإسلامية الأولى. طائفة من الصحابة يتركون ديارهم وأموالهم لأجل إقامة دينهم وحياتهم الجديدة. وطائفة أخرى يستقبلون الطائفة الأولى ويشركونهم معهم في دورهم وأموالهم وسائر ممتلكاتهم. بل يؤثرونهم على أنفسهم مع حاجتهم وخصاصتهم. وهم جميعا بهذا قد تخلصوا من الشح والأنانية وتجاوزوا الحساسيات القبلية )فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ومن الحالات الجزئية الحية الناطقة بهذا الإيثار، ما رواه الإمام البخاري في مناقب الأنصار من صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا (من المهاجرين) أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من يضم –أو يضيف- هذا؟”، فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال هيئي طعامه وأصبحي سراجك ونوِّمي أطفالك إذا أرادوا عَشاء. فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين. فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضحك الله الليلة – أو عَجِب- من فعالكما. فأنزل الله )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

 والقرآن الكريم حين يتحدث عن الصحابة في حياتهم ومعاملاتهم لا يقتصر دائما على مواطن الارتقاء والسمو والقوة، فهو لا يصورهم لنا أنبياء أو كالأنبياء، ولا ملائكة أو كالملائكة. فهم ليسوا معصومين ولا منزهين عن الأخطاء. ولذلك نجد القرآن الكريم يتحدث عن الصحابة أيضا في مواطن ضعفهم وخطئهم، ويتحدث عن مشاكلهم وعثراتهم. ولكنهم رغم ذلك كله، بل وفي ذلك كله يظلون قدوة للسالكين ومنارة للمتوسمين.

ومن الوقائع الكبيرة الشهيرة في السيرة النبوية وفي تاريخ الصحابة، الواقعة المعروفة بحادثة الإفك، وهي الحادثة التي تطرق إليها القرآن وتناولها بالبيان والنقد والتوجيه في سورة النور )إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِين. لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 11-22).

لقد كانت هذه الحادثة مليئة بالعبر والدروس للصحابة أنفسهم ولمن بعدهم ممن يقرأون وقائعها ويستفيدون دروسها ويستوعبون حكمتها، مما لا يتسع هذا المقام لبيانه والإطالة فيه. ولكن ذلك كله ملخص ومشار إليه في قوله تعالى  (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ). وإن من شيم العقلاء الفضلاء أنهم يجعلون من الأخطاء سلما لمزيد من النقاء والارتقاء، ويجعلون من تعاملهم معها عبرة وقدوة لغيرهم ولمن بعدهم. وهذا شأن الصحابة في أخطائهم وعثراتهم.

ومن الوقائع التي خلدها القرأن الكريم من حياة الصحابة، واقعة المرأة التي وقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحاوره وتجادله في مشكلتها مع زوجها الذي عاشت معه طويلا وأنجبت معه كثيرا، ولكنه – في حالة غضب ونزاع- اندفع وتسرع وأعلن تحريمها على نفسه كحرمة أمِّه عليه. ولم يلتفت إلى العواقب والتبعات. قال الله تعالى )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1).

فأي تكريم وأي تشريف للصحابة عموما وللمرأة الصحابية خصوصا أبلغ دلالة من هذا؟ امرأة مغمورة من ضَعَفة المسلمين، وحادثة صغيرة عابرة، يجدان هذه العناية البالغة من رب العالمين، ويخلدهما في كتابه الكريم، ويسمي سورة من سوره بهذه المرأة وبواقعتها، إنها سورة المجادِلة أو المجادَلَة!!

وأكتفي بهذه الأمثلة لأنتقل إلى الفقرة الأخيرة، وهي:

þ مـع الصحـابـة فـي جهـادهـم

أكثر ما تحدث القرأن الكريم عن الصحابة كان عن جهادهم في نشر دعوة الإسلام والدفاع عنها وعن حاملها رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد قدموا لذلك أقصى ما يستطيعون، وبذلوا كل ما يملكون، وضحوا بأنفسهم ونفائسهم. وحتى صفتا “الأنصار والمهاجرين” اللتان يسمى بهما الصحابة ويتَصَنَّفون تحتهما، إنما تشيران إلى جوانب من جهادهم في إقامة الدين وتثبيت أركانه وبناء دولته. فالمهاجرون هاجروا من ديارهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله. والأنصار استقبلوا وآووا ونصروا. فبهذا كان لهم شرف هذه التسمية القرآنية. قال تعالى )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:117) ، وقال )وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100).

فهي تسمية جاءتهم من الله الكريم في كتابه الكريم. روى الإمام البخاري في مناقب الأنصار من صحيحه عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنتم تسَمُّون به أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله.

ورغم أن الصحابة في جهادهم وسبقهم طبقات ودرجات، فإن مجموعهم قد شهد لهم القرآن الكريم برضى الله عنهم وعن جهادهم، وبتبشيره لهم بالدرجات العُلى. قال تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10).

ولقد كان القرآن يتنزل بعد كل محطة جهادية للصحابة، يحمل إليهم التنويه بعد التنويه، وربما حمل إليهم شيئا من التنبيه، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم وجهادا فوق جهادهم. فمن بدر والبدريين إلى الحديبية والمبايعين، ذوي الرضى والرضوان، إلى تبوك وأصحاب التوبة والغفران.

وفي سورة الفتح نجد القرآن الكريم يجعل للصحابة مراتب ومزايا لا نعرف لها نظيرا في تاريخ البشرية، وحتى في سجلات المؤمنين المجاهدين )إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمًْ) (الفتح:10). لقد جمعت الآية من سمو المعنى وبلاغة المبنى مالا يتأتى معه أي شرح أو بيان. فحسبنا تلاوتها والتأمل في جلال مضمونها… فهنيئا لأولئك الكرام البررة. ثم نقرأ في هذه السورة مرة أخرى )لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (الفتح:18 و19).

وأما خاتمة هذه السورة الكريمة – سورة الفتح- فقد جاءت شهادة أخرى فريدة من نوعها أيضا، حيث جمعت بين رسول الله وصحبه في شهادة واحدة وفي صفات موحدة: )مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح:29).

وهـذا مسـك الختـام.

وصلـى الله وسلـم وبارك علـى سيدنـا محمـد وآلـه وصحبـه. د. أحمـد الريسـونـي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى