شبابياتمنوعات ريسونية

بين الحرية واتباع الهوى

مقال نشرته جريدة أحفير 24

(20 يونيو 2013)

ليست الفوضوية الجنسية أو ما يسمونها «الثورة الجنسية» الطريقة الوحيدة لتشويه الحرية وتحويل مجراها لتصب في قنوات الصرف الصحي، وإنما الغرائز والشهوات كلها أصبحت مطية لذلك. كما أن حبوب «الفياغرا» ليست هي المادة الوحيدة المستعملة للتنشيط والشحن والتهييج الشهواني، وإنما لكل مجال ولكل شهوة أنواع متعددة من الفياغرا، يدخل فيها توظيف الإعلام والسياسة والسياحة والفن والتجارة والإشهار التجاري والمنتجات البورنوغرافية بقنواتها ومواقعها… وكل ذلك لجر الناس – وباسم الحرية – نحو عبودية جديدة تتمثل في إدمان الشهوات والنزوات والانقياد لمنتجاتها .

بعض الناس يعتقدون بأنني وأمثالي إنما ندافع عن الخصوصية، أي الخصوصية المغربية والخصوصية الإسلامية، في مواجهة زحف القيم والمفاهيم الكونية الجديدة، والحقيقة أننا ندافع عن الكونية الحقيقية العريقة، في مواجهة الخصوصية التي أصبحت تقدس الشهوات بدون أي اعتبارات، لا صحية ولا أخلاقية ولا غيرها. الجديد اليوم في هذا الاتجاه الخصوصي هو محاولة عولمته وفرضِه وتعميمه، ومن ثَم إضفاء طابع الكونية عليه. وهذا الاتجاه الخصوصي تتبناه تيارات ومنظمات سياسية وحقوقية، وتسير فيه أعداد غفيرة من الشباب الغربي ومَن يتبعهم وينجرُّ وراءهم من المعجبين من هنا وهناك. لكن هذا كله لا يُخرج هذا الاتجاه عن كونه يمثل الخصوصية الغربية وينبع منها، ولا يعطيه صفة الكونية. فمجرد الانتشار في أوساطٍ وشرائحَ واسعةٍ وممتدة عبر العالم لا يعطي صفة الكونية، وإلا لأصبح تعاطي المخدرات مثلا من أعظم القيم الكونية. فاليوم أيُّ فكرة وأي بضاعة يمكنك أن تنشرها على نطاق واسع، وتجد لها زبناء وأتباعا عبر العالم في بضعة أيام…

منذ القديم يذكر التاريخ أن أثرياء الرومان وأمراءهم كانوا يأكلون حتى تمتلئ بطونهم، ثم يستقيئون لإفراغ بطونهم والعودة لأكل ما لذ وطاب من جديد. فهذا نموذج للخصوصية التي يراد اليوم جعلها من القيم الكونية، شعارها: لا شيء يعلو فوق نداء الشهوة وحريتها.

أما المفهوم الكوني الحقيقي للحرية، فلم يحِدْ قط عن الإيمان بالحرية المنضبطة، والحرية المسؤولة، والحرية العقلانية، والحرية البناءة، والحرية الإبداعية. هذه هي المضامين الكونية للحرية لدى عامة شعوب العالم قديما وحديثا وإلى الآن.

الإسلام – كغيره من الديانات والفلسفات البناءة – جاء بما يمكن اعتباره الإطار العقلاني الراشد لممارسة الحرية والحياة المتوازنة، وهو النهي عن (اتباع الهوى)، والنهي عن (تأليه الهوى)، أو بتعبير الشاطبي «إخراجُ المكلف عن داعية هواه».

والتحرر من داعية الهوى ومن تأليه الهوى معناه عدم الاستسلام العبودي لأهواء النفوس وضغوطها، بل التصرف معها وفق مقتضيات الشرع أو العقل أو القانون أو المصلحة. قال الإمام الشاطبي، رحمه الله، مبينا عالمية هذا المعنى المجمع عليه عند عقلاء الأمم قاطبة: «عُلم بالتجارب والعادات أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى والمشي مع الأغراض، لِـمَا يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذي هو مضاد لتلك المصالح. وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة. ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته وسار حيث سارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي. وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية. فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يستدل عليه…».

فالعالم لا يدوم ولا يتقدم بالتشهي والتمني والاستسلام لهوى النفس ورغبات الجسد كيفما كانت، بل ذلك لا يحصل إلا بالضبط والتحكم العقلاني. وعلى سبيل المثال، ليس هناك رضيع إلا وهو ملزم بالفطام في يوم من الأيام، مع ما في فطامه من حرمان وبكاء، وما يثيره فينا من ألم وشفقة. ولو تُرك الرضيع لحريته ورغبته لما قَبِل الفطام أبدا. ولكن هل ستتحقق له مصلحة أو نمو أو تطور بدون فطام؟ لا أبدا.

ونحن الآن في شهر رمضان، وهو شهر الفطام للبالغين. طبعا هو فطام جزئي ونسبي وعابر، وهكذا الفطام عن الأهواء والشهوات، جزئي ونسبي وعابر، ولكنه فطام على كل حال. فالإنسان لا يستغني عن الفطام صغيرا وكبيرا.

وعلى غرار الصيام فجميع التكاليف الشرعية فيها شيء من معاكسة الهوى ومن تعديله وترشيده، ولذلك جاء في الحديث  النبوي: «حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره وحفت النار بالشهوات»، والمقصود المكارهُ التي تؤول إلى المنافع والنتائج الحميدة، والشهواتُ التي تؤول إلى المضرات والنتائج الوخيمة. بمعنى أن الشريعة تحمل الناس على ما فيه نفعهم وصلاحهم، ولو كانت نفوسهم تكرهه أو تستثقله، وتمنعهم مما يضرهم، ولو كانوا يهوونه ويشتهونه. وهي في النهاية إنما تضعهم على سكة المشروعية والرشد والترقي.

وقد أدرك الشاعر العربي المخضرم تلك النقلةَ العميقة التي أحدثتها الشريعة في حياة العرب، بعد أن كانت حياةً سائمة هائمة، فقال رضي الله عنه:

فليس كعَهْدِ الدار يا أمَّ مالكٍ          ولكن أحاطت بالرقاب السلاسلُ

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل      سوى العدلِ شيئا فاستراح العواذلُ

فالشرائع الإسلامية الجديدة هي التي عبر عنها الشاعر بالسلاسل، باعتبار ما فيها من تقييد وترشيد للحياة العابثة والحرية المنفلتة. وقد انتبه الشاعر سريعا إلى الآثار السلوكية والاجتماعية التي أحدثتها تلك «السلاسل» في حياة العرب. فقد جعلت الفتى الشاب الرخو يصبح كهلا حصيفا متزنا، لا يقول ولا يفعل إلا الحق والعدل. إنه النضج السريع والرشد المبكر.

وعلى العكس من هذا، ففي أجواء الحرية الشهوانية، أصبح الناس يتحدثون عن المراهقة المتأخرة، فتجد ناسا كهولا وشيوخا يفكرون بعقلية الصبيان ويعيشون حياة المراهقين.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى