مبادئ و مفاهيممقالاتمقالات فكريةمنوعات ريسونية

الإسلاميون بين إرضاء الشرع وإرضاء الشعب

الإسلاميون بين إرضاء الشرع وإرضاء الشعب

أحمد الريسوني نشر في التجديد يوم 26 – 09 – 2015


معلوم أن مشاركة الإسلاميين في الحكم وتدبير الشأن العام أصبحت تأتي اليوم عن طريق صناديق الاقتراع، أي بأصوات الناخبين واختيارهم. وهذه الأصوات التي أتت بالإسلاميين اليوم، هي نفسها قد تذهب بهم وتأتي بغيرهم غدا. بمعنى أن بقاء الإسلاميين في الحكم أصبح في قبضة الناخبين وتحت رضاهم أو سخطهم. ولذلك يتساءل بعض الإسلاميين المنتخبين: هل علينا الآن أن نُرضيَ الجماهير التي صوتت علينا، ونعطي الأولوية لطلباتها ورغباتها ومصالحها، أم علينا أن نرضي الشرع ونعطي الأولوية والكلمة العليا لأحكامه وطلباته؟

وطَرحُ الإشكال والتساؤلِ بهذه الصيغة، إنما ينشأ عن غفلة الصالحين وسذاجة بعض المتدينين، من الجهلة بمقاصد الدين…
وهناك من يطرحون هذا الموضوع بطريقة أخرى فيها مكر ودهاء، فيقولون: هل سيبقى الإسلاميون أوفياء لشعاراتهم ومواقفهم؛ فيمنعوا الخمر ومحلاته والربا وبنوكه؟ وهل سيمنعون الغناء والسينما والمسلسلات؟ وهل سيفرضون الحجاب على النساء، ويمنعون الاختلاط في المدارس والجامعات والحافلات…؟ أم أنهم سيسكتون عن هذه الأمور وينسونها، ويشتغلون — كسائر الأحزاب — بما يجلب الأصوات ويرضي المصوتين في الانتخابات؟
والجواب عن هذه القضية على وجهين: إجمالي، وتفصيلي.
أما الجواب الإجمالي: فمفاده أنْ نعلم أنَّ أحكام الشريعة هي عين المصلحة الحقيقية للناس أفرادا وجماعة، وأن المصلحة الحقيقية هي أيضا شريعة ويجب أن تُتخذ شريعة. وأنه لا تعارض بين الشريعة الحقيقية والمصلحة الحقيقية، ولا تضاد بين ما تريده الشريعة الإسلامية وما تريده الشعوب الإسلامية. ومنذ سنين طويلة كتبتُ في جانب من هذه المسألة، بعنوان (الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة)، أنقل منه هذه الفقرات:
“أما كون الشريعة مصلحة، فهو أمر مسلَّم به لدى عامة المسلمين وخاصّتهم، مقول به عند جماهير العلماء من كل عصر ومن كل مصر ومن كل مذهب سوى الظاهرية، ولا اعتبار لهم، لا كمّاً ولا كيفاً.
ومن أقوال العلماء المعبرة عن هذا المعنى:
– الشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد.
– الشريعة نفع ودفع.
– الشريعة جاءت لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.
– الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.
– الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها.
– حيثما كانت المصلحة فثَمّ شرع الله، وحيثما كان شرع الله فثَمّ المصلحة.
وحتى نجم الدين الطوفي الذي اشتهر بالقول بإمكان التعارض بين النصوص والمصلحة، نجده في الكتاب ذاته وفي السياق ذاته يقول: “… وبالجملة، فما من آية من كتاب الله عزّ وجلّ إلا وهي تشمل على مصلحة أو مصالح”[1] . ثمّ ذكر أنّ شأن السنة كشأن القرآن كذلك “لأنّها بيان للقرآن، وقد بينّا اشتمال كل آية منه على مصلحة، والبيان على وفق المبيَّن”[2].
هذا عن كون الشريعة مصلحة، وهو كافٍ فيما أحسب.
أما كون المصلحة شريعة، فيتمثّل عند علمائنا في عدد كبير من الأصول والقواعد التشريعية التي ترجع إلى اعتبار المصلحة. وأصرحُها وأشهرها هو أصل (المصلحة المرسلة) الذي يعدُّ حجّة ومصدرا تشريعيا عند عامّة الفقهاء، خلافاً لما يشتهر من اختصاص المالكية بهذا الأصل. قال القرافي: “وأمّا المصلحة فغيرنا يصرّح بإنكارها، ولكنّهم عند التفريع تجدهم يعلّلون بمطلق المصلحة، ولا يطالبون أنفسهم عند الفوارق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة”[3].
وهناك – سوى أصل المصلحة المرسلة – أصول أخرى أساسها جوهرها مراعاة المصلحة وبناء الأحكام عليها:
– فهناك الاستحسان، الذي يرجع في كثير من صوره وتطبيقاته إلى مراعاة المصلحة، كما قال ابن رشد: “ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال: هو الالتفات إلى المصلحة والعدل”[4].
ولذلك قيل في بعض تعريفات الاستحسان: هو ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.
– وهناك أصل سدّ الذرائع، الذي يرجع حاصله إلى درء المفاسد.
وتظهر مصلحيّة هذا الأصل بقوة في كونه يسمح بمنع ما هو مباح بالنص، درءا للمفسدة. وفي هذا مخالفة ظاهرية للنص، تحقيقاً للمصلحة وحفاظاً عليها.
– وهناك العرف، والاستدلال، وهما معاً متضمّنان لرعاية المصلحة وبناء الأحكام عليها.
– كما أن هناك قواعد فقهية كثيرة تؤسّس (التشريع المصلحي) وتضبطه، ومنها:
– الأصل في المنافع الحل وفي المضار المنع.
– لا ضرر ولا ضرار.
– الضرر يزال.
– الضرر لا يزال بمثله.
– يتحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
– الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
– التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
وهكذا يظهر جلياً – من خلال ما ذكرته من أصول وقواعد تشريعية – مدى حجية المصلحة ومرجعيتها في التشريع الإسلامي. ولذلك حق لنا أن نقول: إن المصلحة شريعة، وهو مقصود قولهم: حيثما كانت المصلحة فثَمّ شرع الله، ولذلك قال الإمام الغزالي: “ونحن نجعل المصلحة تارة عَلَماً على الحكم، ونجعل الحكم أخرى علماً لَها”[5]…”[6]
وعلى هذا الأساس وهذا النهج، لا يبقى مجال لتخويف الناس — ولو بعض الناس — على مصالحهم الحقيقية.
فالإسلام يتسع غاية السعة لكل الفنون الجميلة الممتعة البناءة، بما فيها فنون اللهو والترفيه والإمتاع. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها (أنها زفَّتِ امرأةً إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو). فهذا عن اللهو، فكيف إذا جعلنا من هذا اللهو — ومن الفن عموما — وسيلة للتثقيف والتربية والإصلاح؟
والإسلام يتسع للسياحة والتمتع بمباهج الأرض ومخلوقاتها (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : 6]
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون وَسَخَّرَ لَكمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل : 10 — 14]
والإسلام يتسع لتنمية الاقتصاد وربح الأموال وحفظها وتكثيرها، وله في ذلك من الطرق المشروعة المُشْرعة ما يسع كل طموحات الناس ومشاريعهم. فعلينا فقط أن نفتح أبواب الكسب الحلال ونوسعها ونُعَبِّدها، كما علينا أو نوسع أبواب الترفيه واللهو ونرقيها.
وهكذا فنحن مع الإسلام لا نحتاج إلا إلى فهم مقاصده ومصلحية أحكامه، ومراعاةِ ذلك وحسنِ تنزيله. وسيفهم جميع الناس حينئذ — إلا من أبى — أن جميع أحكام الشريعة هي الأحفظ لدنياهم وسعادتهم الدنيوية، فضلا عن دينهم وكرامتهم.
فشريعة الإسلام دين ودنيا معا، وحفظ المال هو أحد مقاصدها الضرورية الخمسة، وكذلك حفظ التحسينيات بكل أجناسها وأنواعها. فمن أراد حمل الناس على الالتزامات الدينية والخلقية من غير مصالح ومباهج دنيوية، أفسد على الناس دينهم ودنياهم.
وعلى هذا فالإسلاميون إذا أرْضَوا جمهورهم ولَبَّوْا حاجات شعوبهم ومجتمعاتهم، فقد طبقوا بذلك شريعتهم وأرضَوا ربهم، وإذا أحسنوا تطبيق شريعتهم، فقد خدموا بذلك جمهورهم وأرضوا شعوبهم.
عن كتاب
(فقه الثورة مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي) ص 31\34
صدر في سنة 2012
***************************
[1] انظر: مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، لعبد الوهاب خلاف، ص 116 — ط 3 (الكويت: دار القلم، 1392ه/ 1972م).
[2] المصدر نفسه.
[3] – الذخيرة للقرافي ج 1، ص 152– (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1994).
[4] – بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج 2، ص 154– (دمشق: دار الفكر، [د. ت.].
[5] – المنخول لأبي حامد الغزالي، ص 355– (دمشق: دار الفكر، 1980).
[6] — الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة – نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى