مقالاتمقالات مقاصدية

علال الفاسي ومقاصد الشريعة

علال الفاسي ومقاصد الشريعة

حينما يُذكر العلماء الذين أفردوا مقاصد الشريعة بالتأليف، فإن علال الفاسي يأتي ضمن الثلاثة الأولين البارزين: الشاطبي، وابن عاشور، وعلال الفاسي. وكلهم منتسبون إلى الأندلس، وتفرد الشاطبي بكونه عاش فيها ومات فيها، رحمهم الله جميعا.

علال الفاسي يُعرف مقامه في المقاصد بكتابه (مقاصد الشريعة ومكارمها)[1]. وقد ذكر في بداية الكتاب أن أصله محاضراتٌ جامعية، كان يلقيها على طلبته في كليتي الحقوق بالرباط وفاس، وبكلية الشريعة بفاس. وهو بهذا يكون أولَ عالم قام بتدريس مقاصد الشريعة وإفرادها بمحاضرات خاصة في الجامعة. وهي السُّـنَّة التي جددها وأكملها تلميذه ورفيقه أستاذنا الدكتور محمد بن البشير الحسني، بجعله مقاصدَ الشريعة مادة دراسية مستقلة بشعبة الدراسات الإسلامية بكليات الآداب والعلوم الإنسانية بالمغرب. وبعد ذلك عمل بهذه السنة في كثير الجامعات والأقسام الجامعية في مختلف الدول الإسلامية. فلهما أجر هذه السنة وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وعلال — كغيره من العلماء المتخصصين المتعمقين في مقاصد الشريعة — قد اصطبغ فكره ونظره الشرعي بصبغة المقاصد. وسنرى ذلك واضحا من خلال عرض عدد من آرائه ومؤلفاته، في ثنايا هذا المبحث وفي الفصل الثاني لاحقا.

اجتهاد مقاصدي أصولي

كان علال الفاسي متحررا في فكره جريئا في التعبير عن آرائه ومواقفه. فلذلك لم تكن اجتهاداته ونظرياته تقف عند الحدود والحواجز التي عادة ما يهاب الناس — حتى العلماء – تجاوزها.

ومن هذه الاجتهادات تقعيده لقاعدة أصولية جديدة، واعتمادها في تأسيس آراء فقهية بعضها غير مسبوق. وهذا نص كلامه في بيان تلك القاعدة وما بناه عليها.

قال رحمه الله: “(قاعدة أصولية لم أر من نبه لها من علماء الأصول):

إن المتتبع لمناهج القرآن والسنة في عرض الأحكام الشرعية، يجدها تسلك طرقا كثيرة لتحقيق أهدافها، فتارة بالوجوب أو المنع الصريحين، وتارة بالتدرج في التشريع مع استكماله في حياة الرسول، وتارة بتنفيذ الحكم في بعض صوره، والتسامح في الصور الأخرى مع إعطاء الأمر — عن طريق الإرشاد — باستكماله إذا تمت أسباب استكماله الشرعية. وهذا ما يمكننا أن نسميه «أمر إرشاد»، وما نعتبره أصلا من أصول التشريع دل عليه بمقصد شرعي، والمقاصد الشرعية كلها دلالات على أصول الأحكام ومسالكِ عِللها؛ فتحريم الخمر علته الإسكار، والدلالة عليها أن الله وصف الخمر والميسر بأنها رجس من عمل الشيطان، وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، فدل هذا على أن قصد الشارع هو الابتعاد عن كل ما يحدث العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فكل ما تحقق فيه شيء من ذلك فقد دل المقصد الشرعي في عدم وقوعه على تحريمه، وتحريمه ليس من قبيل القياس فقط، ولكنه من قبيل الأمر الصريح، عن طريق أمر الإرشاد. وقد حاول الفقهاء استنباط أمرِ الإرشاد وتقييدَ العموم به في بعض المسائل، كما قالوا في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. فمع أن الآية صريحة في دفع الأموال لليتامى بمجرد استيناس الرشد، فقد قيدوه بالتجربة لظهور مخايل الرشد في المحجور المراد ترشيده، مستنبطين ذلك من عبارة الإيناس التي ترشد إلى مثل ذلك.

ومن الأمثلة لأمر الإرشاد في نظرنا قوله تعالى في تعدد الزوجات بعد أن حصره في أربع: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}؛ فقد أرشد الشارع إلى الاكتفاء بالواحدة عند الخوف من عدم العدل، وهو على ما نرى أمر للأمة جمعاء ليستكملوا ما قصد إليه الشارع من إبطال التعدد مطلقا.

وفي تحريم الحرب صرح بمنعها في جميع صورها ما عدا في الحالة التي تكون لحماية الدعوة، مع الإرشاد إلى الامتناع عنها مطلقا متى تحققت حماية الدعوة عن طريق اتفاق دولي لمنع الحرب.

وفي الاسترقاق منعه في جميع صوره الجاهلية وعفا عنه في حالة أسارى الحرب المباحة، وأرشد بالإعراب عن تشوفه للحرية، ورغبته في الاستجابة لكل دعوة صالحة لتحريم الاسترقاق.

فأي مانع من الاعتداد بهذا الأصل الذي هو أمر الإرشاد والذي يتحقق بتحقق ما يقصد إليه الشارع في أمر معين، كالتشوف للحرية، والرغبة في إقرار العدل والسلام في الأسرة، وتحقيق السلام العالمي وإنهاء الحرب، وقصده إلى الوحدات الإنسانية كلها“[2]. (انتهى كلام علال).

ومن تمام الفائدة في هذه المسألة أن أضيف أن المؤرخ والمفكر التونسي الدكتور محمد الطالبي قد اعتنى بهذه الفكرة — أو القاعدة — ورددها في عدد من مؤلفاته، وسماها “القراءة السهمية”. وهو يجعل من هذه القراءة السهمية أساسا ومفتاحا لفهم الإسلام فهما حينيا مُحَيّـَنًا على الدوام، موجها إلى الأمام[3]. ويعني بمصطلح “القراءة السهمية”: أن نفهم النصوص والأحكام الشرعية، بحسب ما يشير إليه سهمها واتجاهها، أي بحسب ما تتجه إليه وتوجه إليه، ولا نقفَ عند الحكم الأولي الآني الذي استفيد منها يوم نزولها.

وأما علماؤنا المتقدمون، فقد ذكروا هذا المعنى — أو أشاروا إليه — بدرجات متفاوتة، أوضحها وأقربها عبارة (تَشَوُّف الشارع…)؛ فتجدهم يتحدثون عن تشوف الشارع للعتق، أو للحرية، وعن تشوف الشارع لإثبات النسب، وعن تشوف الشارع إلى درء الحدود، وإلى عدم تشوفه لإثباتها، وعن تشوف الشارع لتصحيح العقود، ولبقائها، وعن تشوّف الشارع إلى إحياء الأرض وتعميرها.

ومعنى عبارتهم هذه أن الشارع قاصد إلى هذه الأمور، محب لما يحققها، مشجع عليها، وعلى السير في اتجاهها.

وهذه “التشوفات” كلها يبني عليها الفقهاء عددا من الأحكام والترجيحات المتطابقة معها والمحققة لها. بمعنى أنهم يتخذونها أصلا تشريعيا، أو (قاعدة أصولية)، هي قاعدة (أمر الإرشاد) حسب اصطلاح علال الفاسي[4].

على أن صحة هذه القاعدة — كشأن كل القواعد العامة — لا يعني صحة كل ما يُفَرَّعُ عليها وينسب إليها ويقرر باسمها، لأنها على كل حال ليست القاعدة الوحيدة، أو القاعدة الحاكمة على ما عداها، كما يريد الدكتور محمد الطالبي أن يجعلها[5].

د.أ. الريسوني

ص: 37 – 40


[1] — سيأتي النقل منه والتعريف به في مواضع لاحقة.

[2] — دفاع عن الشريعة ص244 – 245

[3] — انظر كتابه: ليطمئن قلبي، الجزء الأول (قضية الإيمان) ص290. وقد وعد بتخصيص الجزء الثاني من هذا الكتاب لهذه القراءة السهمية.

[4] – استعمال الفقهاء لعبارة “بتشوف الشارع” أصح وأسلم، بخلاف عبارة “أمر الإرشاد”، التي هي أضعف دلالة على المعنى المقصود عند علال الفاسي. ثم “أمر الإرشاد” مستعمل عند الأصوليين بمعنى آخر هو الإرشاد الشرعي — غير الواجب — في الأمور الدنيوية، المقابل للندب في الأمور التعبدية. فالندب يستعمل في العبادات، يقابله الإرشاد، في المعاملات والعادات.

[5] — تفاصيل القضية تحتاج إلى مقام غير هذا، لعل الله تعالى ييسر ذلك.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى