ضيف الموقع

الذب عن الشاطبي

د.بلال البحر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وأصحابه .. وبعد:
فقد اشتهر في وسائل التواصل والمواقع الشبكية، فيديو عن الشيخ علي جمعة، تعرَّض فيه لجناب الإمام العلامة الفقيه الأصولي النحوي المقرئ الأستاذ أبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي رحمه الله، ووصفه بالصُّحفي وأنه كصُحفيي مصر، كذا قال!
ثم راح يقرر أنه ليس بعالم، واستنتج ذلك من عدم تقرير كتبه في مجامع التعليم والدرس، وحتى لا يلزم الطعنَ والعصبية في الأعلام وخاصة المالكية، ذكر بعضهم كالرافعي والزركشي والقرافي المالكي! على سبيل المقارنة بينهم وبين الشاطبي، لدفع توهم التنقص بالعلماء وازدرائهم كما يشيعه عنه خصومه، فقد تقدم له ازدراء ابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
والإشكال هنا أن الشيخ علي جمعة يعتريه نوع كِبْر يدفعه إلى العبارة عما هو موجود بما لا وجود له، كهذا الكلام في الأستاذ الإمام أبي إسحاق الشاطبي المتفق على إمامته وجلالته، نعم تكلم بعض شيوخ المذهب وغيرهم في بعض ما قرَّره في الموافقات والاعتصام، وخالفوه وشنعوا عليه من جهة أنه يصح عنه مناقضة ما قرَّره، كما نقحه العلامة ابن الموَّاق وغيره.
كتقريره منع الدعاء بغير الوارد وأنه بدعة، مع نصه على أن بعض الأدعية مجرَّبة نافعة، وإن لم ترد، وقد تعقبه في ذلك أبو سعيد بن لب ونقض عليه، فثار ابن عاصم ونقض على ابن لب، وانتصر جماعة من حذاق المذهب لابن لب، وجرت في ذلك مباحثات غايتها الاحتكام للدلائل دون ازدراء القائل، شأن الفضلاء.
ومن الناس من يقول إن كثيراً مما قرره الشاطبي تقدمه إليه مثل إمام الحرمين والغزالي وأبي عبد الله المازري وأبي الحسن الابياري والقرافي وغيرهم، ولكن الشاطبي بسط العبارة واستخراج الأمثلة وولَّد نظراً تفصى فيه عن مضايق أنظار من قبله من النُّظَّار، فله فضل لا ينكره إلا عامي جاهل، أو حاسد متغافل ذاهل.
لكن وراء الأمر سبب نفسي، وذلك أن الشيخ علي جمعة أراد أن يعبر عن هذه المآخذ التي أُخذت على الأستاذ أبي إسحاق، فأدركته العصبية المشوبة بنوع كبر على بعض شيوخ المقاصد، ممن نابذ موقفه من أحداث الثلاثين من يونيو، فقلد وزرهم عنق الشاطبي، لتوهمه أنه مهَّد لهم سبيل الاجتهاد والخروج عن مناصيص المذاهب، باعتبار المقاصد وملاحظتها، مع أن الشيخ علي جمعة نفسه يعتمد عليها إذا اضطر إليها، تماماً كتناقضه في ذم دعاة الاجتهاد الانتقائي والخروج عن المذاهب، والعمل بمحض الدليل الراجح، مع أنه يفتي بالشاذ ويتقلد تارة اختيارات ابن تيمية الخارجة عن مذهب أحمد، كالقول بفناء النار بالمشيئة، ومسائل من الطلاق والأيمان والبياعات وغير ذلك، فوقع في عين ما عابه على دعاة الاجتهاد!
ولا ريب أن إطلاقه مثل هذا الكلام في الشاطبي قبيح منه ولا يليق بمنصبه، وهو يدل على عِي، ولعمري إذا كان الشاطبي (صحفي) فالشيخ علي جمعة (عرضحالجي) لكن الغريب أن الشيخ جمعة يزدري علم المقاصد هنا، ثم يدعي أنه صنف فيه، فذكرنا بالعلامة السبكي حين عاب على العلامة ابن تيمية نقض كلام ابن المطهر الحلي بالاعتماد على علم الكلام، ثم تبجح بأن له في يد طولى!
قال السبكي:
وليس للناس في علم الكلام هدى … بل بدعةٌ وضلالٌ في تطلُّبهِ
ولي يدٌ فيه لولا ضَعْفُ سامعه … جعلتُ نَظْمَ بسيطي في مهذَّبهِ
فقال السُّرَّمَري يرد عليه:
عِبْتَ الكلامَ بَدِيًّا وافتخرتَ بهِ ……. أخيراً اعْجَبْ لبانيهِ مُخَرِّبِهِ
زعمتَ فيه ضلالا ثم قلتَ ولي…فيه يدٌ بُسِطَتْ، جهلٌ بَجَحَتَ بهِ
وأغرب منه أنه نقل تعريف من عابـهم بـهذا الفن في كتابه (ترتيب المقاصد) فإنه نقل تعريف الشاطبي والريسوني، وأغرب منه وأقبح تناقضا أنه إنما اعتمد في تأييد الإطاحة بحكم الإخوان على المقاصد، وزعم أن المصلحة تقتضيه، ثم هو يعيبه ويذمه!
ويقال للشيخ جمعة: هذا الفن الذي هو مقاصد الشرع، إن أردتَ أنه مذموم مطلقا فهو مناقضة صريحة باطلة، فلم صنَّفتَ فيه، واعتمدته في فتاوى كثيرة لك، وعِبْتَ -فيما خلا من الزمان- أقواما تخلفوا عن درايته.
وإن أردتَ أن المقاصديين كالشاطبي ومن تبعه كالريسوني وغيره، خرجوا فيه إلى ضرب من التوسع والإفراط في إعماله، فهذا القدر مشترك بين أهل الأصول، لأنه أمر يرجع لإعمال النظر والفكر، ولا يعاب بمثله الرجل بالصحفية أو الجهل، بل لا وجه لهذا أصلا، لأنه إنما توسع فيه لسعة علمه به وبمذاهب الناس والدلائل والنظر، ولولا علمه الواسع بذلك لم يتهيأ له البسط فيه، فمثل هذا أولى أن يُمدح الرجل فيه بسعة العلم والنظر لا بالصحفية!
فنهاية ما يحل لك في النظر، أن تبين ما للقوم من مآخذ، في جهة الدليل والتعليل، أفضت بـهم إلى نوع شذوذ أو مخالفة لمذاهب السلف والأئمة، مما لم تسلم منه أنتَ وأتباعك، وأما الانحدار في مهيع الازدراء وثَلْب المخالف بالصحفية، فهذا لا مخلص منه، ولا يتورط فيه فاضل، بل العاقل يجعل في رأسه عقلا، ويعرف قدر الرجال، فمثل هذا شيء يقتدر عليه كل أحد، ولا يعجزهم أن يصفوك به، لكن أخلاقهم ومعارفهم تزمُّهم ولا تسمح به.
وأيضا: فلم يتسع خيالك لوصف أقرب من تشبيه هذا الأصمعي الألمعي، بصحفيي بلدك اليوم -وهم مجموعة من الأرجوزات- الذين أمثلهم طريقة أحمق من أبي غَبْشَان:
إذا فَخَرَتْ خزاعةُ في قديم … وجدنا فَخْرَها شُرْبَ الخمورِ
وبَيْعا كعبةَ الرحمن حُمْقا …… بِزِقٍّ، بئس مُفْتَخَرُ الفَخُورِ
ومن عجب استنتاجه صحفيةَ الشاطبي من مجرد عدم تقرير تصانيفه في الدرس بالجوامع ومعاهد العلوم، وغير خاف أن هذا ليس بلازم، فكم من كتاب لعلي جمعة نفسه لا يعتد به جماهير العلماء اليوم في درس أو بحث، فيلزم -على أصله الفاسد- أن يكون هو صحفيا، فما جوابه عن هذا اللازم فهو جوابنا عن وقيعته في الشاطبي، على أنا لو ذهبنا نسرد له الأعلام الذين لم تقرَّر تواليفهم للدرس لخرج بنا الأمر عن المقصود، فيلزمه وصفهم بالصحفية بمجرد ذلك وهو لا يقوله، بل لو قاله لحل لنا أن نقول في فضيلته: حدَّث الرجل بما لا يعقل، فإن صدق فلا عقل له.
ودونك قواطع أبي المظفر في الأصول، أين من يشرحه ويُدرِّسه، وأين من يدرِّس أصول أبي بكر الرازي، وعُمَد عبد الجبار، ومعتمد أبي الحسين، وتقريب القاضي، وبرهان إمام الحرمين، وبـهذه الكتب أضاء علم الأصول دجى الآفاق، وعادت سوقه بعد الكساد إلى نفاق، وأين من يشرح أصول أبي بكر ابن العربي، وأصول ابن حزم، وأصول الباجي، ونحوها من الدواوين الكبار التي شأنـها أن لا تدرَّس، بل أين من يدرِّس رسالة الشافعي وهي أُمُّ الأصول، هل ترى تدريسها فاش في المعاهد والجوامع، وهل يلزم من ذلك وصف الصحفية، فكيف وقد ذكر أبو عبد الله المجاري أنه قرأ (الموافقات) على مؤلفه!؟
وهذا الصحفي -حاشاه- وضع لنا شرحا لا نظير له في الحُسن والتقرير، على ألفية ابن مالك، فلو كانت الصحفيةُ مهَّدته له، فما يضرك لو كنتَ صحفيا يا شيخ علي فتضعَ لنا نصفه أو حتى ربعه، وخلاك ذم؟ وقد علم النحاة
ومن مظاهر عالمية الشاطبي وعبقريته، أنه حضر مجلسا بالمسجد الجامع بغرناطة مقدم الأستاذ القاضي أبي عبد الله المقري في أواخر ربيع الأول عام سبعة وخمسين وسبعمائة، وقد جمع ذلك المجلس القاضي أبا عبد الله والقاضي أبا القاسم الشريف والأستاذ أبا سعيد بن لب والأستاذ أبا عبد الله البلنسي وذا الوزارتين أبا عبد الله بن الخطيب، وجماعة من الطلبة، فكان من جملة ما جرى أن قال القاضي أبو عبد الله الـمَقَّري: سُئلت عن مسألة من الأصول لم أجد لأحد فيها نصًّا، وهي تخصيص العام المؤكد بمنفصل؟ فأجابه الشاطبي بالجواز محتجا بقوله تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) فهذا عام مؤكد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يحل الله من الفواحش إلا مسألة الناس) فأي صحفي يجيب بـهذا في حضور الكبار!؟
وكيف يكون صحفيا من قرأ على ابن الفخار العَلَم الخطير، أخذ الشاطبي عنه كتاب سيبويه الذي كان أبو العباس المبرد إذا سُئل أن يُقرئ الكتاب يقول: هل ركبتم البحر! كيف وقد قرأه الشاطبي عليه قراءة بحث وتعليل!
بل تلا عليه بالسبع في سبع ختمات، ثم تشبهه بمن لا يحسن القراءة الخلدونية من صحفيي بلدك، ولو شبهته بقضاة بلدك البارعين في إتلاف النفوس بغير حق، وأحدهم لا يحسن الفاتحة، لم يرتضه منك عاقل، فكيف تشبهه بإبراهيم عيسى الحمَّالاتي الذي يدعو لنقد القران وهو لا يحسن تلاوته!
وهل يكون صحفيا من يحل مختصر ابن الحاجب الأصلي، وقد ذ كر أبو عبد الله المجاري في (برنامجه) أنه أخذه على الشاطبي تفقُّها، فمن أولى بالصحفية -إن أنصف الدهر- من يحل ابن الحاجب، أم من ينهب تحقيقه من غيره يا فضيلة المفتي؟!
بل من العلماء من لم يصنف أصلا، فهل تركه التصنيف يستلزم صحفيته، وقد علم أن من صنف فاق الأقران، وإذا كان قد تخرَّج بالشاطبي حذاق العلماء كالمجاري ونحوه، فما يضره إن لم يُدرَّس كتابُهُ، فكيف وبالشاطبي تخرَّج ابنا عاصم الغرناطي؛ أبو يحيى الذي رد عنه اعتراضات ابن لُب، وأبو بكر صاحب التواليف المعتمدة في مذهبه، وهو الذي نظم (الموافقات) وسمَّاه (نيل المنى) ومن اللطائف أن العلامة الكبير شيخ شيوخنا المحقق أمجد الزهاوي رحمه الله لم يؤلف، فقيل له: ألم تؤلف كتابا؟ فقال: بلى، ألفتُ عبد الكريم زيدان! فلو لم يصنف الشاطبي لكفاه دلالة على فضله تخرُّجُ ابني عاصم به.
وهذا (الموافقات) قد أطبق الفضلاء على أن كل أصولي ناظر في معاني الشرع وعلل التكليف عيال عليه، وكان الأستاذ محمد عبدة يحض على مطالعته، وفيه يقول الشيخ أحمد بابا التنبكتي: (كتاب الموافقات في أصول الفقه كتاب جليل القدر جداً لا نظير له، يدل على إمامته وبُعْد شأوه في العلوم سيما علم الأصول) وقال الإمام ابن مرزوق الحفيد: (كتاب الموافقات المذكور من أقبل الكتب) وقال الشيخ محمد حسنين العدوي الأزهري: (من أجل ما ألف في هذا الفن على طريقة النظر في أحوال الأدلة ومقاصد الشريعة كتاب الموافقات).
وفيه قال العلامة ابن التلاميد في رسالته عن خزائن المخطوطات العربية في إسبانيا: (حق هذا الكتاب أن يُستنسخ ويُطبع في بلاد المسلمين لاحتياجهم إليه عموما، خصوصا المالكيين منهم، والحنفيين).
وهكذا قرظه علماء العصر وفضلاء الدهر، من أهل النظر والأصول مثل: دراز وابن عاشور وزيدان والزرقا وغيرهم، بل إن للعلامة حسنين مخلوف الأزهري المصري المالكي تعاليق عليه، وحقَّقه ونشره أساتيذ الأزهر كالعلامة النحوي محيي الدين عبد الحميد والشيخ دراز، ثم يقول الشيخ علي جمعة: صحفي!
فلو أني بُلِيتُ بـهاشمي ….. خؤولتُهُ بنو عبد المدانِ
صبرتُ على أذيَّته ولكن…تعالي فانظري بمن ابتلاني
ويقول ابن عاصم في نظم الموافقات منبها على فضله وفضل مؤلفه:
فالعلمُ أولى ما اقتضى به الزمنْ…وكُتْبُهُ هي الجليسُ المؤتَمَنْ
والموردُ المستعذَبُ الفراتُ ……… ومن أجلِّها الموافقاتُ
لشيخنا العلامة المراقبِ … ذاك أبو إسحاقَ نَجْلُ الشاطبي
فهو كتابٌ حسنُ المقاصدِ …… ما بعده من غايةٍ لقاصدِ
وكان قد سمَّاه بالعُنوانِ … واختار من رؤيا ذا الاسم الثاني
يشير إلى ما روي أن الشاطبي إنما سماه (عنوان التعريف بأصول التكليف) لكن رأى بعض شيوخه فقال له: رأيتك في منام وبيدك كتاب من تأليفك، فسألتك عنه فذكرت أنه كتاب (الموافقات) فسألتك عن معنى تسميته، فذكرت أنك وفقتَ فيه بين أصول ابن القاسم وأبي حنيفة، يعني مذهب مالك وأبي حنيفة، فسماه الموافقات.
وقد لخصه بعض الشناقطة كالولاتي وسماه (توضيح المشكلات في اختصار الموافقات) واختصره غيره، فلا يضيره أنه لم يدرَّس لكبر حجمه وغزارة علمه، وقد علم أن الدرس ينعقد على المختصرات لا المطولات، ولو وضع الشاطبي مختصراً لتتابع الأعلام على شرحه وتدريسه.
وللشاطبي فتاوى منثورة في (المعيار) ولو كان صحفيا ما اعتنى بنشر ما طوي من فتاواه مثل أبي العباس الونشريسي! وقد ناظر الكبار من أهل النظر وباحث مثل الإمام أبي العباس القبَّاب والعلامة المحقق ابن عرفة، ومن تأمل فتاواه وكان عارفا بالأصول والنظر ومذاهب العلماء، أيقن أن نبزه بالصحفية جور وحيف لن يبرح قائله حتى يرى سنة الله في الوقيعة بمن لحومهم مسمومة، وسُنَّة الله في منتقصهم معلومة.
ومن عجب أن الشيخ علي جمعة يقرر لرئيس الدولة جواز فرض الضرائب على أغنياء مصر إذا احتاج الجيش والشرطة للأموال بقصد درء الإرهاب كما يقول، ويعتمد على فتيا العلامة الشاطبي لأمير وقته بجواز ضرب الخراج على الأغنياء إذا احتاج الجند لسد الثغور!
ومن المناسب الملائم ختم هذا الذب ببيتين للعلامة الشاطبي، يضمن فيهما شكواه من الابتلاء بمن يطلق الكلام جزافا في أعراض الناس، ويذكر صبره عليه دفعا لمفسدته لا جلبا لمصلحته التي لا ترتجى:
بُلِيتُ يا قوم والبلوى منوَّعة …. بمن أُداريه حتى كاد يُرْدِيني
دَفْعَ المضرَّة لا جَلْبا لمصلحة…فحسبي اللهُ في عقلي وفي ديني
والله المستعان، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه
بلال فيصل البحر
21/ذو القعدة/1442

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى