ضيف الموقع

رؤية العالَـم والتعليم الديني/ فتحي حسن ملكاوي


يبدو أنَّ الاستعمال الديني لمصطلح رؤية العالَـم غلب على الاستعمالات الأخرى. فما علاقة رؤية العالَـم بالتفكير الديني؟ وما أوجه الشبه والاختلاف بينهما؟ وما قيمة هذا النوع من المفردات والمصطلحات عند العاملين في المهن المختلفة، وعند الذين يريدون الحديث عن معنى الحياة كما يرونـها؛ وعند المدرسين الذين يـحاولون زرع التفكير في رؤية العالَـم عند طلابـهم؟
إنَّ موضوع رؤية العالَـم هو فصل في تاريخ الأفكار والتوجهات الفكرية الـمتعددة وتطوُّرِها في التاريخ وتوزُّعِها في الجغرافيا. ومن الواضح أنَّ الدلالات التي يشير إليها مصطلح “رؤية العالَـم” تتداخل بشدة مع الـمعتقدات الدينية. فالـمصطلحات الدينية مثل: الإيـمان والعقيدة والتصوُّر الكلي تعبِّر عن مـجموعة الأفكار والـمفاهيم والـمعتقدات، التي تـجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي يـحاول مصطلح رؤية العالَـم التعرض لـها. وربَّـما تكون الـمراجع الرئيسية التي تتحدث عن رؤية العالَـم صادرة في معظمها عن مؤسسات دينية، أو كُتبت لأغراض التعليم الديني. وأهمُّ الكتب الصادرة بالإنجليزية التي عالجت هذه الصلة بين رؤية العالَـم والتعليم الديني، بقدر من التفصيل، ثم أصبحت مرجعاً للدراسات اللاحقة كتابٌ ألفه “ديفيد نوجلDavid Naugle ” ، وهو كتاب شامل في موضوع رؤية العالَـم، استعرض فيه تاريخ المفهوم وتطوُّرَه منذ مراحل مبكرة في الفكر الفلسفي والديني.
وقد لاحظ “نوجل” أنَّ مفهوم رؤية العالَـم احتلَّ في العقود الثلاثة الأخيرة موقعاً مهماً في التعبير عن الكيفية التي يفهم فيها المسيحيون العالَـم. ولم يقتصر جهد المؤلف على التتبع التاريخي لجذور المفهوم، بل اشتمل على تطوره حتى أصبح يستعمل على نطاق واسع في الخطاب الفكري لعدد من العلوم المعاصرة، وبخاصة التاريخ والفلسفة واللاهوت. وقد بذل المؤلف جهداً كبيراً في تخليص مفهوم رؤية العالَـم من الدلالات النسبية التي حملها الفكر الفلسفي والعلمي الحداثي، بعد هجرته (هجرة المفهوم) إلى دائرة الخطاب الديني المسيحي. وعدَّ المؤلف هذا الجهد محاولة ضرورية في “تنصير” مفهوم رؤية العالَـم، أو التطبيع المسيحي له؛ Christian Naturalization. وبـهذا الإطار للفهم يـحمل مفهوم رؤية العالَـم معنى مسيحياً خالصاً، ويتخلص من الدلالات الضارَّة للجذور التاريخية، وبـهذه الطريقة من عملية التنصير، أو التطبيع المسيحي، يـحمل المفهوم هُويَّة جديدة، ويصبح مفهوماً مفيداً في خدمة الكنيسة ومقبولاً من ربِّ الكنيسة.
وفي كتاب يـمتلئ بالحماس الديني المسيحي حدَّد رونالد ناش Ronald Nash ثلاث رؤى للعالَـم معروفة في عالَـم اليوم، وبخاصة ما يسود في الغرب، هي: المسيحية، والمادية الطبيعية، وحركة العصر الجديد. ومع أنَّ رؤية العالَـم المسيحية في رأي المؤلف هي التي يتوقع أن تسود الولايات المتحدة الأمريكية، فإنَّـها تواجه تـحدياً كبيراً من رؤية العالَـم الطبيعية، التي كانت أساس الرؤية الماركسية التي سادت لدى قطاعات كبيرة من النَّاس معظم القرن العشرين. أمَّا التحدي الآخر فهو ما تـمثله رؤية العصر الجديدNew age worldview التي لا تتناقض مع الرؤية الطبيعة فحسب، وإنَّـما تتناقض أيضاً مع كلِّ ما يؤمن به المسيحيون. ويـخشى المؤلف أن تملأ هذه الحركة الفراغ الذي خلفته الماركسية في العالَـم. ولذلك فإنّه يدعو إلى رفع مستوى الوعي برؤى العالَـم بوصف ذلك جزءاً أساسياً من النضج الفكري، وبخاصة أنّ المؤلِّف “على قناعة بأن قليلاً من الأمريكيين قد تعلموا كيف يفكرون برؤية العالَـم، ولا يدركون محتوى رؤية العالَـم التي يمتلكونها حتى لو كانت حياتـهم تعتمد عليها.”
ومع أنَّ طريقة المؤلف في عرض أفكاره في الكتاب تمتلئ بالحماسة وتستخدم مفردات الصراع في ميدان المعركة، باعتبار أنَّ “رؤية العالَـم المسيحية هي وسيلة الانتصار في معركة عالَـم الأفكار”، فإنَّه يؤكِّد بأنَّ التفكير في موضوع الدين بطريقة أخلاقية وروحية لا يكفي، ويلزم التزود بالبنية الفكرية اللازمة للانتصار في هذه المعركة: “لأنَّ كثيراً من قضايا التديُّن تُعرض على أنَّـها معارك يعيشها الإنسان ولا يرغب في أن يـخسر فيها، ولذلك سيكون من المفيد له أن يُعِدّ نفسَه لأداء أكثر فاعلية في عالَـم الأفكار…”
ويرى نينان سمارت Ninian Smart أنَّنا نعيش اليوم في عصر ديني جديد، ومن أجل أن نفهم معتقدات النَّاس ومشاعرهم وممارساتـهم جيداً يلزمنا أن نفهم الأديان التقليدية ونفهم الإيديولوجيات الحديثة، باعتبارها صوراً مختلفة من رؤية العالَـم، وأن منهج دراستها الملائم هو منهج “تحليل رؤية العالَـم” worldview analysis. لكنَّ رؤى العالَـم هذه ليست إلا معتقدات إنسانية عبر ثقافية crosscultural human beliefs وأنَّ دراستها تعدُّ تـمهيداً مناسباً للدراسات الحديثة للدين من منظور إنساني. فالإيديولوجيات الحديثة مثل القومية والإنسانية والماركسية رغم خلافها الجذري مع الدين، فإنّ الالتزام بـها والاستناد إليها لا يـختلف عما يعطيه أهل الأديان من قداسة والتزام. وهذه الطريقة في دراسة الأديان والإيديولوجيات تقدم بديلاً “موضوعياً” لدراسة الأديان –في نظر المؤلف- أفضل مما يتم في الجامعات الدينية التي يقتصر عملها على تدريب رجال الدين والمتخصصين في دراسة الأديان.
وحاول المؤلف في كتابه عرض القوى الرئيسية المشكِّلة للمعتقدات والمشاعر التي تؤثر في عالَـم اليوم، مؤكداً أنَّ مفهوم رؤية العالَـم يـمتلك دوراً رئيسياً في الوجود الإنساني وأنَّ لهذا الدور بعداً مهماً في تشكيل الخبرة الكلية للإنسان، إضافة إلى الأبعاد الخاصة بالعقيدة والأخلاق وممارسة الطقوس والبعد الاجتماعي. وقد أشار الكتاب إلى أنَّ العلومَ الاجتماعية في سعيها لدراسة أثر الدين في حياة المجتمعات البشرية، ودراسة أثر التغيرات التي طرأت على هذه المجتمعات في تشكيل الوعي الديني، يـمكنها أن تسهم في استشراف مستقبل الدين في هذه المجتمعات، وأنَّ الرؤية الكونية التي يقدمها الدين عن حياة الناس أخذت تنشر نوعاً جديداً من وَعْي الذات ووعي العالَـم.
إنَّ تدريس العلوم برؤية دينية محددة في المدارس الرسمية، وفي الجامعات في العالَـم الغربي تكتنفه كثير من الإشكالات القانونية، ويتعرض لمواقف بعض المؤسسات، وردود فعل بعض فئات المجتمع ذات التوجهات والانتماءات الفكرية والثقافية المختلفة. ولذلك تسعى بعض المؤسسات الحريصة على التمكين لموضوع “رؤية العالَـم الدينية” أن تؤسس منابر مفتوحه يلجأ إليها الطلبة والـمُعلمون وأساتذة الجامعات لتوعيتهم بطريقة التعامل المناسبة مع كلٍّ من المعرفة العلمية والمعرفة الدينية. وهناك الـمئات من هذه المنابر التي تديرها مؤسسات ومراكز بحثية ومواقع إلكترونية تسعى إلى توفير تعليم العلوم برؤية دينية، عن طريق تزويد الـمُعلمين بمواد وأساليب تعليمية تُـمكنهم من امتلاك رؤية دينية للعالَـم تعزز قدرتـهم على عرض المعرفة في مناهج التعليم المختلفة من منظور ديني، دون أن يخلَّ ذلك بالمعرفة العلمية البحتة.
ومن الأمثلة على المؤسسات التي تسعى إلى تعليم العلوم برؤية دينية، منظمة التحالف العلمي الأمريكي، التي يتوحد أعضاؤها على مبدأين هما الاعتقاد بالمسيحية الأرثوذكسية، والالتزام بالعلم السائد، ويكرسون جهودهم لتعزيز البحث والحوار السليم أخلاقيا ومنهجيا بـما يلزم من التقدير والاحترام. وللمنظمة موقع خاص بمسائل التعليم لبناء الشخصية المتكاملة عن طريق الاعتقاد بتوافق العلم والإيـمان، وهو مخصص لكلِّ من يـحبُّ التفكير، من الـمُعلمين والـمُتعلمين، لتوفير تعليم لأطياف واسعة من المجالات التي ترفض فكرة وجود حرب بين العلم والدين. وتتكون الـمنظمة من “مجموعة متحالفة من العلماء والمهندسين والباحثين في المجالات ذات الصلة بالعلوم، مثل تاريخ العلوم وفلسفة العلوم، وتعليم العلوم، وهم مسيحيون يؤمنون بالكتاب المقدس، ويَقبلون بهبة الحياة التي قدمها الله لنا بلطفه وفضله.”
ولا خلاف على أنَّ التعليم الديني هو تعليم لرؤية العالَـم، فأسئلة رؤية العالَـم هي الأسئلة التي يجيب عنها الدين، وتختلف تفاصيل رؤية العالَـم في التعليم الديني من دين إلى آخر، لكنَّ المرجعية في التعليم الديني هي نصوص مقدسة تفترض نوعاً من الإيمان الغيبي بـها، مع السعي لإدراك معقوليَّتها وهدفها في تحقيق مصالح الإنسان العاجلة والآجلة، وذلك في الأديان التي تؤمن بوجود اليوم الآخر. وتعليمُ العلوم هو أيضاً تعليم لرؤية محددة للعالَـم، لكنَّ الرؤية العلمية للعالَـم تختلف في تفاصيلها باختلاف فهمنا للعلم وطبيعته وميدان عمله وحدوده. والمرجعية في هذا الفهم هو المنهج العلمي القائم على المشاهدة والتجربة والاختبار. وكذلك الأمر فإنَّ تعليم الفلسفة هو تعليم لرؤية فلسفية للعالَـم، ومرجعيَّتُها إعمال المنطق العقلي والتفكير النقدي. وقد تلتقي رؤية العالَـم الدينية والعلمية والفلسفية في بعض عناصر الرؤية لكنَّنا لا نتوقع أن يصل التلاقي بين هذه الرؤى إلى حد التطابق الكامل.
فالتعليم بصفة عامة والتعليم الديني بصفة خاصة وسيلة أساسية في تكوين رؤية للعالَـم، ووجوه النقد التي يمكن أن توجه إلى التعليم الديني كثيرة ومتعددة، ويمكن أن يكون لهذا النقد بعض وجوه الحق. لكنَّ المشكلة أن النقد أحياناً لا يتناول التعليم الديني نفسه بقدر ما يتناول حضور الدين في التعليم، أو حضور رؤية العالَـم التي تستند إلى مرجعية دينية، فيكون النقد لهذا الحضور، ولهذه المرجعية وليس للتعليم ومدى كفاءته في تحقيق الأهداف المعتمدة له.
ولذلك حين يتصدى كاتب من مرجعية شيوعية لنقد التعليم في الوطن العربي فهو يختار ما يختص بالتراث، وكأنَّ كلَّ مشاكل التعليم كامنة في حضور التراث ومرجعيته الدينية في التعليم، فيدَّعي أنَّ: “أهداف التعليم المعلنة والخفية في الوطن العربي هي: المحافظة على التراث من عادات وقيم وتقاليد، ونقل التراث إلى الأجيال اللاحقة، وتنظيم عملية “أو إحباط” تغيير التراث أو تجديده أو إغنائه أو تطويره.”
وحين يتصدى كاتب آخر من مرجعية ليبرالية لنقد التعليم يـختار التعليم الديني هدفاً لإطلاق النَّار عليه فيحمل على التعليم الديني في بلدان العالَـم الإسلامي حملة شرسة، فهو عنده “التعليم الذي يعزز الانغلاق على الذات”، و”كراهية الآخر”، و”التشجيع على التطرف والإرهاب”، وهو الذي “يعزز التنصل من مسؤولية التخلُّف وإلقاء المسؤولية على الآخر”، ويتبنّى “رفض النظر فيما نشترك فيه مع الآخر”، وقد “فشل في تحصين الأبناء من الميل إلى التطرف والإرهاب”، وهو “سبب فشل التنمية”، وهو “سبب التجزئة القائمة في العالَـم العربي”، وهو “سبب تفرق المسلمين”، و”يكرس أوهام وهواجس الغزو الفكري”، وهو الذي “عزز مفهوم جهاد الطلب الذي حرق شباب الأمة في معارك في أماكن كثيرة”، وهو الذي “اختطف مفهوم الجهاد في الإسلام” … إلخ. حتى إنَّ الكاتب المذكور نشر تحت عنوان “نحو تعليم ديني متصالح مع العالَـم” أربع عشرة مقالة حتى تاريخ 26/ 11/ 2019. وكانت هذه الصفات التي ألصقها بالتعليم الديني هي العناوين الفرعية لهذه المقالات.
ويعدُّ تعليم رؤية العالَـم الدينية، موضوعاً جدلياً متواصلاً، لا سيما في المجتمعات التي تـمرُّ في مرحلة تطوُّر، وتتنافس فيها فئات مختلفة تـحمل أفكاراً متناقضة في كثير من الأحيان، وينعكس هذا الاختلاف والتنافس في السلطة المعرفية التي تقرر فلسفة التعليم ومناهجه، ما بين تيار محافظ يسعى للحفاظ على الموروث الديني بوصفه هوية أساسية للمجتمع، دون التقليل من أهمية المعرفة المعاصرة، وتيار آخر يـحاول فرض العلمانية التي عرفتها البلدان الغربية، ويرى أنَّـها كانت حافزاً على التقدم العلمي.
وتشتبك جهود التعليم برؤية دينية بالقيم والأنظمة العلمانية المعتمدة في كثير من مجتمعات العالَـم. فالعلمانية هي موقف من الدين ومن ثم التعليم الديني. وكان مصطلح العلمانية يعني في الأساس فصل الدين عن السياسة، على أن يبقى الدين شأناً خاصاً بالإنسان وصلته بربِّه. وقد نـجد ممارسات علمانية في بعض دول الغرب تقترب من هذا المعنى، ونجد في المقابل معان مختلفة تـماماً لدى دول غربية أخرى لا تطيق حضور الفكر الديني أو الممارسة الدينية حتى في الشؤون الخاصة.
ويبدو أنَّ كثيراً من العلمانيين في المجتمعات العربية والإسلامية يعتمدون هذا المعنى الشمولي الذي تظهر العلمانية عندهم بصفتها رؤية شاملة للعالَـم، ونموذجاً تفسيرياً للعلاقات بين العالَـم الطبيعي والبشري والاجتماعي، لا يتضمن الاعتقاد بوجود أية قوة خارج الكون أو خارج الإنسان، فالعقل البشري والمنهج العلمي وما توصلا إليه من قوانين المادة والمجتمع تكفي لتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية. فالعِلمانية رؤية للعالَـم متصلة بالعلم، والمنهج العلمي يكفي لتنظيم حياة الإنسان في سائر شؤونه، وهي في الوقت نفسه عَلمانية متصلة بالعالَـم، تقدِّم رؤية للعالَـم الراهن المشهود في الدنيا، فهذه “الدنيا” هي العالَـم الوحيد الذي نعرفه، ولسنا بحاجة إلى التفكير في عالَـم آخر، فالدنيوية هي المعنى المرادف للعَلمانية، ومِن ثَـمَّ تكون العلمانية رؤية للعالَـم: مكاناً وزماناً وتاريخاً ومصيراً.
ويتتبع طه عبد الرحمن تشكُّلَ رؤية العالَـم التي تستبعد حاجة الإنسان إلى التفكير بالدين وما يتضمنه الدين من الإيـمان بذات عليا مفارقة، خارج الكون والحياة والإنسان، ويشير إلى التصورات الوجودية التي قدمها بعض الفلاسفة الغربيين من أمثال جان جاك روسو، وإيـمانويل كانط، وإميل دوركهايم، وغيرهم مـمَّن أسسوا للحداثة الغربية، وقدموا نـموذجاً أو رؤية للعالَـم انتزعت الأسئلة الوجودية عن طبيعة الإنسان والحياة والأخلاق من ميدان الدين وقدمت إجابات زمنية “دهرانية”، بدلاً من الإجابات الدينية الروحية. فأصبحت الدهرانية هي “العِلمانية” بكسر العين، بمعنى: فصل العلم عن الدين، و”العَلمانية” بفتح العين، بمعنى: فصل سياسة العالَـم عن الدين وكلتهاهما بنات “الدنيانية”.
وكثير من الجدل الدائر اليوم في العالَـم العربي والإسلامي عن إصلاح التعليم ينزع عن قوس العلمانية، بمعنى تحييد الدين عن مناهج التعليم، لحلِّ كلِّ المشكلات التي يعاني منها المجتمع، ولتمكين التعليم بعد ذلك من بناء شخصية الإنسان “المتصالح مع العالَـم”، والقادر على التفكير الحر والإبداعي. ولا مانع عند بعض العلمانيين من تعليم الدين في مادة مستقلة على أن تنزع منه الروح التي يدَّعون أنها تؤدي إلى الانطواء على الذات الدينية، وكراهية الآخر أو عدم الاعتراف به. والعجب عندهم أن تحتوي كتب اللغة والعلوم والتاريخ مثلاً على نصوص دينية أو تعبيرات أخلاقية أو فكرية ذات مرجعية دينية!
وقد تطور مفهوم العلمانية بمعنى فصل الدين على الحياة العامة، أي السياسة تحديداً، في مسارات مختلفة في التاريخ الأوروبي والأمريكي واختلفت تطبيقات هذا المفهوم من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. وقد شهد “مصطلح الفصل بين الكنسية والدولة” المذكور في الدستور الأمريكي جدلاً واسعا لا سيما في مطالبة الجماعات المسيحية المحافظة الرقابة على الكتب المدرسية، والصلاة في المدرسة، والإصرار على تعليم الرأي الديني في النظريات العلمية التي تناقض الدين، وغير ذلك.
ويرى بعض الباحثين التربويين الأمريكيين أن من الخطأ التعصب للفصل التام بين الدين والدولة بصورة متطرفة في المدارس العامة، ذلك أنَّه وفقاً لـمعظم تفسيرات دستور الولايات المتحدة، فإنَّه يـمكن للمعلم أن يُعلِّم عن الدين بطريقة محايدة، دون محاولة إقناع الطلاب باتجاه معيَّن أو ضدّ اتجاه معيّن، ولا يعلِّم الدين لأجل إقناعهم به. لكنَّ معظم الـمُعلمين لا يفهمون المبادئ الدستورية التي تحدِّد ما يستطيعون فعله وما لا يستطيعون، لذلك فهم يمارسون الحذر من مـخالفة القانون، وهم بذلك “يطيعون قوانين غير موجودة”.
إنَّ تعليم رؤية العالَـم في مؤسسات التعليم العام قضية جدلية في كثير من البلدان، ففي الولايات المتحدة مثلاً، يُنظر إلى الموضوع في ضوء مبدأ الفصل بين الدين والحياة العامة، فيمنع تدريس الدين بالصورة التي قد تؤثر على معتقدات المتعلمين، ومن غير المرغوب فيه عرض رؤى العالَـم سواءً كانت دينية أو إلحادية بطريقة الدعوة والتبشير، والأفضل هو أن يعرض الموضوع بصورة التوازن المعتدل moderate balance، ويبقى المطلوب هو كيف يتحقق ذلك؟
فقد يكون عرض رؤى العالَـم بصورة متناظرة تقدم رؤية دينية ورؤية غير دينية، لكن المشكلة أن الرؤية الدينية لا يمكن عرضها إلا بصورة مباشرة، أما الرؤية غير الدينية فتعرض بطريقة ضمنية غير مباشرة لكنها تكون قوية التأثير عندما يكون العرض خالياً من أي بعد ديني للموضوع. وحتى لو جاء تعليم رؤية العالَـم بنيَّة التثقيف وليس الإقناع، فإن ثمة مخاطر متعددة تتمثل في شكاوى الوالدين، أو انتقاد معلمين آخرين، أو الضغط الذي تمارسه جهات إدارية، إضافة إلى قضايا المحاكم الذي يرفعها المتعصبون لمبدأ “الفصل بين الكنيسة والدولة”.
وفي كتاب حديث عن التعليم الإسلامي عند الأقليات الإسلامية في عدد من البلدان الأوروبية، تتحدث الباحثة عن اختلاف التعليم الديني الذي يستهدف بناء الإيـمان عند الـمُتعلم عما يسمّى التعليم الديني الليبرالي، ويظهر الاختلاف في طريقة التعليم وهدفه وطريقة بناء المعرفة. فالتعليم الليبرالي يعتمد على النظرية البنائية التي تجعل المعرفة التي يكتسبها المتعلم نسبية وقابلة للخطأ. بينما يتبنى التعليم الديني، في المنهج الإيـماني المقصد، نظرةً واقعية، تؤمن بأنَّ العالَـم موجود في الحقيقة بصورة مستقلة عن وَعْي الإنسان ومعرفته، وأنَّ المتعلمين يـحاولون اكتشاف هذا العالَـم وبناء نسخة عنه في أذهانـهم. والله سبحانه هو مصدر كلَّ العلوم والمعارف، والمقصد من اكتساب هذه المعرفة هو تنمية الإيـمان بالإله الخالق. وتتصف طريقة التعليم بتوجيه مباشر، وتستند مادة التعليم إلى تفسيرات نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي.
سبق أن أشرنا إلى أنَّ رؤية العالَـم تتضمن إجابات الأسئلة الوجودية التي تختص بالخالق والمخلوقات، والإنسان والحياة، والخير والشر والدنيا والآخرة، والمعرفة والقيم. وفي تفاصيل ذلك تأتي معرفة الإنسان لنفسه ولغيره من الناس، وأنَّ الحياة تقتضي التعارف بين النَّاس والتعاون والتكامل، وأنَّ التعدُّد والاختلاف بين النَّاس في أديانـهم وثقافاتـهم وتفضيلاتـهم لا تـمنع من التعارف والتعاون وتبادل المصالح والمنافع، وكلُّ ذلك يقتضي توفير متطلبات معرفة الآخر، وتقديم الذات بـما يـحتاج الآخر إلى معرفته عنها، على مستوى الأفراد والمجتمعات.
والإسلام يقدم إجابات سهلة وواضحة، ومعرفة وافية عن هذه الموضوعات. والتعليم الديني الإسلامي يُعنى باكتساب المعرفة الدينية، وتشجيع السلوك الديني، والتحلي بالأخلاق والقيم الدينية، ونـجد ذلك في صورة أهداف صريحة في مناهج التعليم في معظم البلدان العربية والإسلامية. لكنَّ التعليم الديني واجَهَ نوعاً من التهميش في البرامج التعليمية، من حيث الزمن المخصص له، ودرجة الاهتمام بـمناهجه وتدريب معلميه، إذا قورن ذلك بمواد دراسية أخرى تعطى لها أهمية أكبر مثل تدريس العلوم والرياضيات واللغة الأجنبية. وتتفاوت درجة التهميش من بلد إلى آخر. وعلى الرغم من هذا التهميش الذي لا يزال مستمراً، فقد نال التعليمُ الديني الإسلامي اهتماماً متزايداً في العقدين الأخيرين بسبب تحميله مسؤولية التطرف التديني، وأخذت البحوث والدراسات تتوالى بتشجيع كبير ودعم سخي، لفحص كلِّ كلمة في مناهج التعليم الديني وكلِّ سلوك يتم أثناء تدريسها، سواءً في بلدان العالَـم الإسلامي أو في نشاطات التعليم الإسلامي للجاليات الإسلامية في البلدان الأخرى.
صحيح أنَّ جزءاً من هذا الاهتمام تزايد بعد انـهيار الاتحاد السوفييتي وحاجة الغرب إلى عدو جديد يوجِّه حربه الثقافية والحضارية تُـجاهه، فكان هذا العدو هو الإسلام والمسلمين. لكنَّ هذا الاهتمام قفز قفزة كبيرة بعد التفجيرات التي حدثت في الحادي عشر من سبتمبر 2001، في الولايات المتحدة الأمريكية، ونُسبت إلى متطرفين مسلمين. فتوالت القرارات السياسية والدعم المالي الكبير لمراكز البحث في كلِّ اتجاه لإدانة التعليم الإسلامي. مع العلم بأن معظم الدارسات أثبتت أنَّ من وقع منهم التطرف في الفهم الديني أو نُسبت إليهم أعمال العنف والإرهاب، لم يكونوا من خريجي التعليم الديني، وأنَّ حالات الكراهية والعنف والإرهاب التي عرفها العالَـم ونُسبت لمسلمين، كانت نسبة ضئيلة جداً من الحالات المماثلة الخاصة بغير المسلمين، وأنَّ نسبة كبيرة من حالات العنف ليست لأسباب دينية.
إنَّ الأجواء الدولية التي فرضتها سياسات الدول الغربية، بخصوص ما سمي “الحرب على الإرهاب” والضغط على الدول الإسلامية لتنقيح المناهج الدراسية على أساس تلك السياسات جعلت بعض المؤسسات المحلية والإقليمية في العالَـم الإسلامي تتخذ مواقف وقرارات تدعو إلى هذا التنقيح، ومن ذلك أن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي اتـخذ قراراً “بشأن الإجراءات الفكرية والعملية لمواجهة الغلو والتطرف وما يسمى بالإرهاب في هذه الأيام في شتى الميادين والمجالات.” وقد نصَّ القرار على عدد من البنود ذات الصلة المباشرة بتعليم عناصر رؤية العالَـم، ومنها:
“تحديث المساقات الدراسية وتطويرها في المؤسسات التعليمية باتـجاه فتح مضامينها على ثقافة احترام حقوق الانسان، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب والإلحاد، والاعتراف بحق الآخر في التنوع والاختلاف. وبناء المناهج التعليمية بـما يتوافق مع عقيدة الأمة وثوابتها، وبشكل يـجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومراجعة ما قد تتضمنه من مضامين مغلوطة عن الإسلام والعمل على تصحيحها. وإدراج مساقات ومواد دراسية في المدارس والجامعات تركز على نبذ العنف والجريمة والتعصب، وتعمل على تعزيز الوعي بـحرمة الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض. وإقرار سياسة تعليمية تقوم على تعزيز قيم التسامح والمواطنة والتفكير الناقد واحترام الرأي الآخر.”
وقد اتخد مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي نفسه في دروته الرابعة والعشرين بدبي، خلال الفترة من: 07 – 09 ربيع أول 1441هـ، الموافق : 04 – 06 نوفمبر 2019م. قراراً “بشأن التسامح في الإسلام وضرورته المجتمعية والدولية وآثاره”، ويختص القرار بمسألة واحدة من مسائل “الحرب على الإرهاب” عن طريق تعميق ثقافة التسامح. فكان من بنود القرار ما له صلة مباشرة في تنقيح المناهج التربوية من أجل: إدراج قيمة التسامح في المناهج التربوية والتعليمية، وتضمين الخطاب الديني قيم التسامح في جميع المجالات.”
خلاصة القول، إنّ الدين، أيَّ دين، هو رؤية للعالَـم، وتعليم الدين هو تعليم لتشكيل هذه الرؤية وتوضيحها وتكريسها. ولعلَّ المجتمعات الإسلامية هي أكثر المجتمعات في العالَـم حرصاً على الإعلاء من مكانة الدين فيها. ثُـمَّ إنَّ إجابات الأسئلة الوجودية التي تـمثل رؤية دينية -إسلامية للعالَـم، هي محل اتفاق واسع بين آراء المدارس الفكرية والمذهبية السائدة في المجتمعات الإسلامية، لذلك فإنَّ تعليم رؤية العالَـم التي تضمن هذه الإجابات يُعدُّ وسيلة من وسائل التوحيد الفكري في هذه المجتمعات.
وثـمَّة مشكلة أخذت حدّتـُها تتزايد في السنوات الأخيرة، كلَّما تعلَّق الأمر بتعليم الدين، تعبِّر عن القلق مـما يقدِّمه الدين من رؤية للعالَـم، إنْ كان لا بدَّ من هذا التعليم من حيث المبدأ، وهي الدعوة إلى اعتماد مبدأ “التعليم عن الدين” بدلاً من “تعليم الدين”؛ بـحجة أنَّ تعليم الدين يُعدُّ تلقيناً لا يعطي للمتعلم حرية في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، ولتمكينه من هذه الحرية لا مانع من التعليم عن الدين، دون أن يتضمن التعليم ما يكون دعوة إلى الاعتقاد أو الالتزام الديني. والذين يحذرون من خطورة تعليم الدين يخشون من انسحاب المنظور الديني الذي يتعلمونه من الموضوعات الدينية، على تعلُّم سائر العلوم الأخرى.
وبعض الداعين إلى “التعليم عن الدين” بدلاً من “التعليم الديني”، أن لا يكون هناك تعليم ديني، يكفي أن تتضمن مناهج العلوم الاجتماعية ما قد يلزم من معلومات عن الأديان. وهم بذلك يحاولون تطبيق مبدأ علمانية المجتمع، التي تـمنع تعليم الدين في المؤسسات العامة للدولة، وتترك مسألة الدين للأسرة أو للمدارس الدينية الخاصة. بينما تنطلق رؤية العالَـم الدينية الإسلامية أساساً، من التحذير من الفصل الحادّ بين العلوم بالصورة التي قد تولّد رؤى متناقضة عن العالَـم. فرؤية العالَـم الإسلامية لا تقتصر على تعلّم المواد الدينية، وإنَّـما هي منهج في التفسير ومرجعية في الفكر ونظرية في الفهم، لا بدَّ تكون حاضرة في تعلُّم سائر العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية وفروعها النظرية والتطبيقية. وإذا أسهم التعليم الديني في بناء هذه الرؤية، فإنَّنا نتوقع أن يتضمن تعليم العلوم الأخرى ما يعزز بناء هذه الرؤية وحضورها ووضوحها وتماسكها والثقة بـها من جهة، وحسن الفهم والاستيعاب للعلوم الأخرى، وموقعها في حياة الأمة، من جهة ثانية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى