أبحاثأبحاث مقاصدية

الأخلاق في الطب .. تأسيس مقاصدي

الأخلاق في الطب .. تأسيس مقاصدي

ورقة مقدمة لندوة (الأخلاق الإسلامية والطب)،المنظمة                                                                        من قِبَل مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، بالدوحة، في 5 – 7 يناير 2013

تقديم

كثير من الناس يرون أن البشرية وإن كانت تتقدم وتترقى على جميع الأصعدة، فإنها تنحط وتتقهقر في أخلاقها. فهل صحيح أن زمننا هذا شهد ويشهد تراجعا وانحطاطا على صعيد القيم الخلقية والسلوك الأخلاقي؟ وهل أخلاق الناس ومكانة الأخلاق عندهم كانت من قبلُ أرقى وأفضلَ مما هي عليه اليوم؟

يبدو لي أن موضوع (الأخلاق بين الأمس واليوم) جدير بأن تخصص له عدة دراسات مقارنة، وجدير بأن يكون موضوعا لإحدى الندوات المقبلة لهذا المركز. لكن الذي لا يمكن إنكاره على أي حال، هو أن عصرنا عرف تحسنا خلقيا واضحا في عدة جوانب من حياة الجماعة البشرية. ومن أبرز مظاهر هذا التحسن ما يتمثل في قضية حقوق الإنسان التي أضحت من القضايا المميزة لعصرنا ومن أهم إيجابياته. ومنها كذلك ظهور العمل الإنساني الواسع، بمنظماته ومؤسساته المتخصصة، الحكومية والأهلية، المحلية والدولية، وفي طليعة ذلك نجد العمل الإغاثي الطبي. ولا شك أن هذين المجالين يجسدان ارتقاء خلقيا غير مسبوق في تاريخ البشرية، خاصة من حيث الحجم والفاعلية.

غير أن هذا التحسن لا ينفي ظهور مخاطر جدية تتهدد مكانة الأخلاق وتتهدد الركن الأخلاقي في الحياة البشرية والثقافة البشرية. فهناك النظرية القائلة بأن الأخلاق مجرد إفراز اجتماعي يتغير مع الأحوال الاجتماعية ويتقلب بتقلبها. وليس هناك أخلاق أو قيم ثابتة يجب التمسك بها في جميع العصور وجميع الأحوال… ثم هناك الفكرة السائدة – نظريا وعمليا – في عالم اليوم، وهي القائلة بفصل الدين عن الدولة، والأخلاقُ جزء لا يتجزأ من الدين. فإبعاد الدين عن الدولة معناه إبعاد الأخلاق عن الدولة ونُظُمِها وتشريعاتها وسياساتها.

وهناك من يدعون إلى عزل الفن عن الأخلاق والضوابط الأخلاقية، فالإبداع الفني يجب أن يكون – بزعمهم – حرا طليقا لا يحده شيء ولا يقيده شيء، لا دين ولا خلق!

ثم نجد اليوم ذلك الاستخدام الرهيب، الممنهج والمنظم، لتجارة الجنس والمخدرات، وما يدخل فيها ويرتبط بها من ممارسات أصبحت بمثابة أسلحة الدمار الشامل للأخلاق وللكرامة البشرية، وهي تتم عبر شبكات محلية ودولية على درجة كبيرة من التغلغل والنفوذ، ويصل اختراقها وتوظيفها حتى إلى لأجهزة الأمنية والقضائية.

وتتسرب فكرة استبعاد العنصر الخلقي ومحاولة إلغائه، حتى إلى الطب والممارسة الطبية؛ فنجد من الأطباء من يرفضون أي اعتماد على الوازع الأخلاقي في الوقاية والعلاج من عدد من الأمراض الجسدية والنفسية، مع ما هو معلوم ومجرب من نجاعته وفعاليته.

ومن الواضح أن ندوتنا هذه تأتي لتقييم دور العنصر الخلقي، وللعمل على تثبيته وتفعيله، في مجال التخصص الطبي. وذلك ما تحوم حوله هذه الورقة.

وقد جعلت محتواها في تقديم ومبحثين.

ونظرا لصغر حجم البحث لم أره بحاجة إلى خاتمة، وبالله تعالى التوفيق.

المبحث الأول

 مكانة الأخلاق في الشريعة ومقاصدها

الحديث عن الأخلاق والطب في الشريعة الإسلامية ومقاصدها، لن يكون إلا فرعا عن مكانة الأخلاق وموقعها في الإسلام بصفة عامة. لذلك لا بد من استحضار الأصل وتصوره قبل الحديث عن الفرع.

ومكانة الأخلاق في الإسلام وشريعته يمكن رصدها وبيانها من خلال الجوانب الآتية:

  1. الأخلاق والعقيدة: أساس الشريعة

وهذا أمر واضح قريب المنال لمن تدبر القرآن المكي خاصة؛ فمعظمه ينصب على التأسيس العقدي والخلقي للرسالة المحمدية والشريعة الإسلامية، وذلك ما سماه الإمام الشاطبي “القواعد الكلية”. فهي إما قواعد عقدية أو قواعد خلقية. قال الشاطبي رحمه الله: “اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً… وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال([1])وغيرِ ذلك، ونُهيَ عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادَّعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم، أو أوجبوه من غير أصل، مما يخدم أصل عبادة غير الله. وأُمر ـ مع ذلك ـ بمكارم الأخلاق كلها: كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، و أخذِ العفو، والإعراض عن الجاهل،والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر والشكر، ونحوها، ونُهي عن مساوئ الأخلاق: من الفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، وغيرِ ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية…”([2]).

وعند تفسير الآية المكية:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: 13]، قال القاضي أبو بكر بن العربي: “المعنى: ووصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلفُ بما يرُدُّ القلب والجارحة إليه، والصدقُ، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل، والإذايةِ للخلق كيفما تصرفت، والاعتداءِ على الحيوانات كيفما كان،([3]) واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات…”([4]).

فإذا اقتصرنا – فقط – على ما جاء في كلام الشاطبي وابن العربي من المأمورات والمنهيات الخلقية التي نزل بها القرآن في المرحلة التأسيسية للرسالة الإسلامية، نجد أنها تضمنت:

 من المأمورات: العدل، والإحسان، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، و أخذ العفو، والإعراض عن الجاهل،والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر، والشكر، والصدق، والتقرب إلى الله تعالى بكل عمل صالح.

ومن المنهيات: الفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، والإذاية للخلق، والاعتداء على الحيوانات، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات.

  • نصوص غزيرة ومساحة شاسعة للأخلاق

المعاني والتوجيهات الخلقية لم تنحصر في القرآن المكي ونصوصه التأسيسية، بل ظلت تتردد وتمتد في عامة النصوص الشرعية بجميع أصنافها وفي جميع مراحلها. وإن أي نظرة في التصنيف الموضوعي لمضامين الآيات والأحاديث، لَتُظهر بوضوح ويسر النصيبَ الوافر فيها، بل الأوفر، للموضوعات والتوجيهات ذات الطبيعة الخلقية.

ولعل أكبر دليل على حجم المساحة التي تحتلها الأخلاق في الإسلام، هي تلك الموسوعة الأخلاقية الكبرى التي أشرف على إعدادها وإخراجها كل من الدكتور صالح بن حميد، والأستاذ عبد الرحمن بن ملوح، وصدرت في أحد عشر مجلدا بعنوان: (موسوعة نضرة النعيم في مكارم وأخلاق الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم). وقد تناولت هذه الموسوعة اثنين وأربعين وثلاثمائة من الأخلاق الواردة في القرآن والسنة، وهي تشمل الأخلاق الظاهرة والباطنة (أي النفسية والعملية)، وتشمل كافة مجالات الحياة الخاصة والعامة. فمن يلقي نظرة فاحصة على فهرس موضوعات هذه الموسوعة، يدرك بسهولة مكانة الأخلاق ومقدار انتشارها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومقدار الآيات والأحاديث الواردة في التوجيه الخلقي.

  • كل ما هو خُلُق فهو دين، وكل ما هو دين فهو خُلُق

في تفسير قوله تعالى{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم – 4]، يرى عامة المفسرين أن هذا الخلق العظيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجمل ما في الإسلام ومجمل ما في القرآن الكريم، فكأنّ مجملَ الإسلام والقرآن، إنما هو (خلق عظيم). وهذا ما أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها، عندما جاءها بعض الصحابة يسألون عن مضمون الخلق النبوي العظيم المنوه به في الآية، فقالت: كان خُلُقه القرآن ([5])

وقال الإمام الطبري: “القول في تأويل قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل… ” ([6]).

وقال ابن عاشور: “فلا جرم عَلِمنا أن الإسلام هو مكارم الأخلاق، وجماع مكارم الأخلاق يعود إلى التقوى”([7])

ومن هنا قال بعض العلماء: “الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين”([8]). فمعيار الجودة والمفاضلة في الدين والتدين هو حسن الخلق، فمن كان أحسن خلقا فهو أقوم دينا وأرقى تدينا، والعكس بالعكس.

روى البيهقي بسنده … عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن رجلا من بني سلمة كان يحدثه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسْنُ الخلق»، ثم راجعه الرجل، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حسن الخلق» حتى بلغ خمس مرات([9])

وهذا المعنى قد تواتر في الأحاديث النبوية الشريفة، من مثل:

  • “ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق”([10])
  • –         «إن الناس لم يعطوا شيئا خيرا من خلق حسن»[11]
  • –       “ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة”([12])
  • “إن مِن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوما القيامة أحاسنَكم أخلاقا”([13])

 ومن أجود ما قيل في تفسير حسن الخلق، ما نقله البيهقي في الباب السابع والخمسين من (شعب الإيمان)، عن الإمام أحمد أنه قال: «ومعنى حسن الخلق: سلامةُ النفس نحو الأرفق الأحمد من الأفعال، وقد يكون ذلك في ذات الله تعالى، وقد يكون فيما بين الناس. وهو في ذات الله عز وجل: أن يكون العبد منشرحَ الصدر بأوامر الله ونواهيه، يفعل ما فرض عليه طيب النفس به، سلسا نحوه، وينتهي عما حرم عليه، واسعا به، غير متضجر منه، ويرغب في نوافل الخير، ويترك كثيرا من المباح لوجه الله تعالى، إذا رأى أن تركه أقرب إلى العبودية من فعله، متبشرا لذلك غير ضجِر منه، ولا متعسر به. وهو في المعاملات بين الناس: أن يكون سمحا بحقوقه لا يطالب غيره بها، ويوفي ما يجب لغيره عليه منها، فإن مرض فلم يُعَدْ، أو قَدِم من سفر فلم يُزَر، أو سَلّم فلم يُردّ عليه، أو ضاف فلم يكْرَم([14])، أو شَفع فلم يـُجـَب، أو أحسن فلم يُشكَر، أو دخل على قوم فلم يُمَكّن، أو تكلم فلم ينصَت له، أو استأذن على صديق فلم يؤذن له، أو خطب فلم يزوّج، أو استمهل الدَّيْنَ فلم يُمهَل، أو استنقص منه فلم يُنقَص، وما أشبه ذلك، لم يغضب، ولم يعاقب، ولم يتنكر من حاله حال، ولم يستشعر في نفسه أنه قد جُفي وأُوحِش، وأنه لا يقابِل كل ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله، بل يضمر أنه لا يعتد بشيء من ذلك، ويقابل كُلّاً منه بما هو أحسن وأفضل وأقرب إلى البر والتقوى، وأشبه بما يُحمد ويرضى . ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه، كَهُوَ في حفظ ما يكون له، فإذا مرض أخوه المسلم عاده، وإن جاءه في شفاعة شفَّعه، وإن استمهله في قضاء دين أمهله، وإن احتاج منه إلى معونة أعانه، وإن استسمحه في بيع سمح له، ولا ينظر إلى أن الذي يعامله كيف كانت معاملته إياه فيما خلا، أو كيف يعامل الناس، إنما يتخذ الأحسن إماما لنفسه، فينحو نحوه ولا يخالفه. والخلق الحسن قد يكون غريزة، وقد يكون مكتسبا، وإنما يصح اكتسابه ممن كان في غريزته أصل منه، فهو يضم بما اكتسبه إليه ما يتممه. ومعلوم في العادات أن ذا الرأي بمجالسته أُولي الأحلامِ والنُّهَى يزداد رأيا، وأن العالم يزداد بمخالطة العلماء علما، وكذلك الصالح والعاقل بمجالسة الصلحاء والعقلاء، فلا ينكَر أن يكون ذو الخلق الجميل يزداد حُسنَ خلقٍ بمجالسة أولي الأخلاق الحسنة، وبالله التوفيق»([15])

          وقد بين عليه الصلاة والسلام أن مقصود بعثته في مجملها إنما هو تتميم مكارم الأخرق، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم بقوله ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”([16]).

          ومما يؤكد كون الأخلاق هي الأسس والقواعد الأولى للتشريع الإسلامي، ما ثبت من أن أوائل الأوامر والنواهي التي أنزلت وتلقاها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توحيد الله وعبادته، إنما كانت أوامرَ ونواهيَ خلقية. ففي الحوار المعروف الذي جرى بين هرقل و أبي سفيان حول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال هرقل: ماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان: “يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف، والصلة…”([17]).

وفي حديث أم سلمة الطويل حول لقاء المسلمين المهاجرين بنجاشي الحبشة، قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي: “وأَمَرَنا – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم – بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة. وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قال فعدد عليه أمور الإسلام…” ([18]).

وفي حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا … »([19])، فنجد في الحديث مزجا واضحا بين الإيمان وحسن الخلق، بحيث جعل حسن الخلق جزءا من الإيمان ومن كمال الإيمان.

وفي هذا المعنى نقل البيهقي عن أبي عبد الله الحليمي – رحمه الله تعالى – قوله: «فدل هذا القول على أن حسن الخلق إيمان، وأن عدمه نقصانُ إيمان، وأن المؤمنين متفاوتون في إيمانهم، فبعضهم أكمل إيمانا من بعض»([20])

          وهكذا يبدو جليا أن شريعة الإسلام أُسسها أخلاق ومقاصدها أخلاق وأحكامها أخلاق.

الأصول الجامعة للأخلاق في الإسلام

لعل أجمع مقصد تربوي خلقي في جميع الرسالات المنزلة هو مقصد التزكية؛ فتزكية الإنسان فردا وجنسا وجماعة هو الملتقى والغاية القصوى لكل عناصر التخلية والتحلية. وقد ذكر مقصد التزكية صريحا في عدة آيات هي:

  1. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: 2]
  2. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 128].
  3. قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 151].
  4. قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164].

قال العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله:”ذكر الله تعالى مقاصد البعثة المحمدية الرئيسية وفوائدها الأساسية في عدة آيات من القرآن الكريم…(يقصد الآيات الأربع السابقة)، ثم قال: “ومهمة تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس تشغل مكانا كبيرا في دائرة الدعوة النبوية ومقاصد البعثة المحمدية.”([21]).

والخصال النفسية والسلوكية التي تشكل عناصر التزكية الخلقية كثيرة ٌ ومتنوعة جدا، ويمكن أن تعدَّ بالمئات. وقد حاول الفلاسفة وعلماء الأخلاق إرجاعها إلى أصول أساسية جامعة وحاكمة. وعلى هذا الأساس شاع عندهم ذكر الأصول الأربعة للفضائل، مع أضدادها التي تعتبر أصولا للرذائل. قال ابن مسكويه : “أجمع الحكماء أن أجناس الفضائل أربعة وهي: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة”([22]). ثم قال: “وأضداد هذه الفضائل الأربع أربعٌ أيضا، وهي: الجهل، والشَّرَهُ، والجُبن، والجور”([23]). ثم أورد ما يدخل تحت هذه الأصول الأربعة وأضدادها، من الفضائل والرذائل المتفرعة عنها …

وقال الغزالي: “الفضائل وإن كانت كثيرة، فتجمعها أربعة تشمل شُعَـبها وأنواعها، وهي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة . فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوانية، والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب، وبها تتم جميع الأمور، ولذلك قيل: بالعدل قامت السماوات والأرض.

فلنشرح آحاد هذه الأمهات، ثم لنشرح بيانها وما ينطوي من الأنواع تحتها … ” ([24])

ثم أعاد ذكرها بشكل أكثر توضيحا، فقال: ” الفضائل النفسية…أربعة أمور: العقل وكماله العلم، والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الانصاف، وهي على التحقيق أصول الدين … “([25])

          ويرى العلامة شاه ولي الدهلوي أن تحصيل السعادة البشرية مرجعه إلى أربع خصال هي:

  • الطهارة،
  • والإخبات لله تعالى،
  • والسماحة،
  • والعدالة.

ويرى أن الأنبياء إنما بعثوا للدعوة إلى هذه الخصال الأربع، وأن الشرائع الإلهية إنما هي تفصيل لها وراجعة إليها ومنشعبة منها ([26]).

وقد نص على “انشعاب الشرائع الإلهية” كلها من هذه الخصال الأربع، وهي في جوهرها وأساسها خصال خلقية.

ويرى صاحب (دستور الأخلاق في القرآن) أن خُلُق ( التقوى) هو العنصر المركزي والفضيلة الأم في الشريعة الإسلامية. قال رحمه الله: “قد جرى العرف على تسمية القوانين الأخلاقية، بحسب العنصر الغالب في مضمونها، فرديًا أو اجتماعيًا، صوفيا أو إنسانيًا: شريعةَ عدل، أو شريعةَ رحمة، وهكذا … وليس شيء من هذه الصفات ذاتِ الجانب الواحد بمناسب هنا فيما يبدو لنا.

          إن هذه الشريعة توصي بالعدل والرحمة معًا، وتتوافق فيها العناصر الفردية والاجتماعية، والإنسانية والإلهية على نحو متين، بيد أننا لو بحثنا في مجال هذا النظام عن فكرة مركزية، عن الفضيلة الأم التي تتكثف فيها كل الوصايا، فسوف نجدها في مفهوم ( التقوى )، وإذن، فما التقوى إن لم تكن الاحترام البالغ العمق للشرع.”([27])

          وممن اهتموا بهذا الموضوع من المعاصرين أيضا، الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) . فقد عمل على استقراء الصفات الخلقية المحمودة والمطلوبة، وإرجاعِها إلى أصول كلية لها، ثم عالج من خلالها الأخلاق التفصيلية المندرجة تحتها، وكذلك أضدادها من مساوئ الأخلاق . قال موضحا طبيعة عمله ونتيجته: “ولدى سبر مفردات الأخلاق في استقراء لا ندعي له التمام والكمال، وبعد إجراء تصنيف لها، انكشفت لنا الأصول أو الكليات التالية:

الأصل الأول: حب الحق وإيثاره.

الأصل الثاني: الرحمة.

الأصل الثالث: المحبة.

 الأصل الرابع: الدافع الاجتماعي.

 الأصل الخامس: قوة الإرادة.

 الأصل السادس: الصبر.

 الأصل السابع: حب العطاء.

 الأصل الثامن: علُوُّ الهمة.

الأصل التاسع: سماحة النفس.

ولهذه الأصول التي ترجع إليها مفردات مكارم الأخلاق، أضدادٌ ترجع إليها مفرداتُ الرذائل والنقائص الخلقية … “([28])

وبعد هذه الأصول التسعة، التي عالجها في فصول تسعة، أضاف في فصل عاشر فضيلتين أخريين، اعتبرهما منبثقتين عن ” أكثر من أساس خلقي”، وهما: العفة (مع ضدها)، والشجاعة (مع ضدها) ([29])

المبحث الثاني:

الأخلاق في الطب

إذا كانت مجالات الحياة كلُّها تحتاج إلى الأخلاق، وتستقيم وترتقي بالأخلاق، فإن العمل الطبي هو في أصله وجوهره عمل أخلاقي، ولا تقوم له قائمة إلا بالأخلاق. وإذا كان علماء الشرع يقولون: “الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين”، فعلى علماء الطب أن يقولوا لبعضهم: “الطب كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الطب”. وإذا كان مقام الطبيب ومكانته يتحققان ويقدران بحسب ما له من علم وخبرة وتجربة ومهارة، فإن النجاح الفعلي في ذلك كله يتوقف على مقدار ما له من محاسن الأخلاق؛ من رأفة ورحمة وشفقة، ومن رقة ورفق ولين، ومن صبر وأناة وتواضع…

مقاصد الشرع ومقاصد الطب

من المعلوم أن مقاصد الشرع مدارها على حفظ [30] الضروريات الخمس؛ وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

ولو أردنا أن نتحدث عن مقاصد الطب لوجدنا أنها لا تخرج عن حفظ النفس والنسل والعقل. فهي تشترك مع مقاصد الشرع في ثلاثة من خمسة.. ثم نجد أن حفظ هذه الضروريات الثلاث المشتركة يساعد على حفظ الدين والمال. وعلى هذا فمقاصد الطب مندرجة في مقاصد الشرع متلاحمة معها إلى حد كبير. ومعلوم أن حفظ النفوس – سواء في الشرع أو في الطب – لا يقف عند الحفظ المادي، بل يشمل الحفظ المعنوي، بما يعنيه من سلامة وصحة وتوازن في الحالة النفسية. ثم يتقدم الشرع -فينفرد أو يكاد – بحفظه للصحة والعافية الروحية للإنسان. ولذلك نجد علماءنا يقررون أن “الشرع هو الطبيب الأعظم”[31]. المهم أن مقاصد الشرع ومقاصد الطب تلتقي في أن الموضوع هو الإنسان، وأن الغرض هو الصحة البدنية والنفسية والعقلية للإنسان، وأن الغاية هي سعادة الإنسان. رسالة الطب هي نشر الشفاء والرحمة، ورسالة الدين هي نشر الشفاء الأوسع والرحمة الأعم. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء : 82]. فالشفاء والرحمة مقصدان مشتركان بين الرسالتين الطبية والشرعية، وإن تفاوتت الساحة والمساحة بينهما….

ولعلماء الشريعة تعبير آخر يختصر مقاصد الشريعة وضرورياتها في كلمتين جامعتين هما: حفظ الأديان، وحفظ الأبدان. فمصالح الخلق مدارها على حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وأساس السعادتين (الدنيوية والأخروية) حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وعمدة الثقافات والحضارات حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وأساس كل تنمية وترقية حفظ الأديان وحفظ الأبدان.

وعادة ما يتوقف المفسرون للتنبيه على المغزى فيما تضمنه  قوله تعالى {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر : 13]، حيث تم الجمع والربط بين آيات الله ومعجزاته الدالة عليه وعلى رسله من جهة، وبين الامتنان بإنزال الرزق من السماء من جهة أخرى. وسر ذلك عندهم هو أن هذين الأمرين يشكلان جماعَ مقاصد الشرائع؛ فأحدهما فيه حفظ الأديان، والآخر فيه حفظ  الأرزاق والأبدان.

قال الفخر الرازي: “واعلم أن أهم المهمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء. فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان. فالآيات لحياة الأديان، والأرزاق لحياة الأبدان. وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات”[32]

ونقرأ في تفسير القرطبي قوله: “قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي دلائل توحيده وقدرته، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} جمع بين إظهار الآيات وإنزال الرزق؛ لأن بالآيات قوامَ الأديان، وبالرزق قوام الأبدان”[33].

وقد استقر في الثقافة الدينية – الإسلاميةِ وغيرِها – أن العلوم كلها تتمحور حول حفظ الأديان وحفظ الأبدان، مع العلم أن جزءا كبيرا من الأديان مخصص مباشرة لحفظ الأبدان…

 ويروى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد “كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}. فقال النصراني : ولا يؤْثَر عن رسولكم شيء من الطب، فقال علي : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: “المعدة بيت الأدواء والحِمْية رأس كل دواء، وأعط كل جسد ما عودته” . فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا”[34]

ومن القواعد المعروفة في الفقه ومقاصد الشريعة، قاعدة “تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة”. وفي تطبيقات هذه القاعدة نجد الاقتران والمقارنة بين حفظ مقاصد الطب وحفظ مقاصد الشرع، أو بين حفظ الأبدان وحفظ الأديان، حيث يقرر الفقهاء وجوب الحجر على الفقيه الماجن، وعلى الطبيب الجاهل، لكون الأول يفسد الأديان، والثاني يفسد الأبدان.  ولذلك قيل: “يُفسد الأديانَ نصفُ متفقه، ويفسد الأبدانَ نصفُ متطبب

والذي أراه أن الطبيب الذي لا خَلاق له، مهما كان علمه بالطب ودرجته فيه، يكون أشد خطرا وضررا على الناس من الطبيب الجاهل. وإذا كان الطبيب الجاهل يحجر عليه، فإن الطبيب الفاسد ينبغي ان ينكل به.

ولكي ندخل أكثر في المقاصد الخلقية للشريعة، وخاصة منها ما هو أكثر التصاقا بالعمل الطبي وأبلغ أثرا فيه، أتناول في الصفحات الآتية أصلين كبيرين من أصول الأخلاق الإسلامية، وهما: – – خُلُق التقوى،

  • وخُلُق الرحمة.

وسيظهر جليا ما يتفرع عن هذين الأصلين من أخلاق ذات أثر بليغ في السلوك البشري عامة، وفي سلوك الطبيب والمعالج بصفة خاصة.

أولا: التقوى منبع الأخلاق

سواء تعلق الأمر بالمجال الطبي أو بغيره من المجالات الدينية والدنيوية، بحفظ الأديان أو بحفظ الأبدان، فإن خُلُقَ التقوى يحتل مكان المركز والمنبع لسائر الأخلاق. وهذا ما صرح به عدد من العلماء، كما في قول ابن عاشور: “جماع مكارم الأخلاق يعود إلى التقوى”([35]). فما حقيقة التقوى؟ وما هي مكانتها وآثارها السلوكية؟

ماهية التقوى…

التقوى في اللغة من الاتقاء والوقاية . “والوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال: وَقَيْتُ الشيء أَقيه وقاية ووقاء ” ([36])، ومنه قوله تعالى {فوقاهم الله شر ذلك اليوم}[الإنسان – 11] وقوله: {ووقاهم عذاب الجحيم}[الدخان – 56].

 وقيل: الوقاية “هي فَرْط الصيانة وشدة الاحتراس من المكروه . وأصل الاتقاء الحَجْرُ بين شيئين، ومنه يقال ( اتقى بـتُرسه ) . وفي الحديث: ( كنا إذا احمَرَّ البأسُ اتّـقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم )”([37])

قال الراغب الأصفهاني / 3 ملخصا المعنى اللغوي للتقوى: “والتقوى جعلُ النفسِ في وقاية مما يُخاف. هذا تحقيقه. ثم يسمى الخوف تارة تقوى، والتقوى خوفا، حسب تسمية مقتضَى الشيء بمقتضيه، والمقتضي بمقتضاه “([38])

والتقوى في استعمالات الشرع تعبر عن حالة خلقية، قلبية نفسية، تجعل صاحبها مرهف الشعور بالمسؤولية ومحاسبة النفس، مقدرا لعواقب الأفعال وآثارها، فيتصرف بناء على ذلك، من تلقاء نفسه، سواء تعلق ذلك بنفسه، أو بربه، أو بأي كان من خَلْق الله.

فالشخص المتقي: يستشعر مدى فضل الله ونعمه عليه فيتقيه، وهو يَهَابُ ربه ويخاف مقامه فيتقيه، وهو يستحيي من ربه الذي يراه – وقد أمره ونهاه – فيتقيه، وهو يخاف غضب الله وعقابه فيتقيه. وهو يرى ويدرك قبح الأفعال السيئة وعواقبها عليه أو على غيره، فيعتبر بها ويتعظ منها فيتقيها …

فالتقوى انضباط وارتقاء ذاتيان، كما قال عمر بن عبد العزيز ” التقيُّ ملجَم، لا يفعل كل ما يريد ” ([39])، لكنه ملجم بتقواه، بإرادته واختياره وحسن تقديره . كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: “التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله، رجاء رحمة الله . والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله، مخافة عذاب الله “([40])

والتقوى يقظة وتبصر وحذر، في كافة التصرفات والحركات والخطوات . كما نبه على ذلك أبو هريرة رضي الله عنه، حين جاءه رجل يسأله عن معنى التقوى، فقال له: “هل أخذتَ طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم . قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيتُ الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصُرت عنه. قال: ذاك التقوى . “([41]).

التقوى في القرآن والسنة

النصوص الشرعية المتعلقة بخُلُق التقوى غزيرة ومتنوعة، وخاصة في القرآن الكريم . وهي كلها تعكس ما سبق ذكره من كون التقوى قضية مركزية ومحورية في الإسلام وشريعته. بل هي كذلك في دعوات كافة الأنبياء والمرسلين، مثلما نجد في النص الأول من النصوص القرآنية التالية:

1 ـ قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وقد جاءت هذه الآية بلفظها على لسان عدد من المرسلين، في سورة آل عمران ( 50 ) وسورة الشعراء (108، 110، 126، 131، 144، 150، 163، 179 ) وسورة الزخرف ( 63 ) . وهذا معناه أن (التقوى) هي مقصد مشترك وقاعدة ثابتة في جميع الشرائع المنزلة .=

2 ـ قوله سبحانه: {الـم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة – 1ـ 5].=

3 ـ قوله جل وعلا:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة البقرة – 197] وقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة – 2] وقوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [سورة الحجرات – 13]

ومن جوامع السنة النبوية في هذا الباب:

1 ـ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن ([42])=

2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “سُئِل رسول اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عن أكثر ما يُدْخِل النَّاسَ الجنةَ فقال: تقوى اللَّه وحُسنُ الخُلق. وسُئِل عن أكثر ما يُدْخِل الناسَ النارَ فقال: الفَم والفرْج”([43]).

3 ـ في حديث طويل عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قلت يا رسول الله أوصني، قال: “أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله” ([44]).

فاعلية التقوى وآثارها

التقوى ـ كما تقدم ـ تنبعث من رقابة ذاتية يمارسها كل واحد على نفسه ومن داخل نفسه. ولذلك فهي حاضرة مع صاحبها في كل وقت وحين. فالإنسان في حياته يمكن أن يغيب عن الناس ويغيب عنه الناس، فيتخلص من رقابتهم ومحاسبتهم ولومهم وضغطهم، ويمكن أن يكون مقامه فوق الناس، بسلطانه وسطوته، أو بعلمه ومرتبته، أو بجاهِه ومنصبه، ولكن تقواه – إن كان من أهل التقوى – تظل حاضرة معه رقيبة عليه موجهة لسلوكه، في سره كما في علنه، وفي سفره كما في حضره، وفي ليله كما في نهاره، وفي انفراده بنفسه كما في اجتماعه مع غيره.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي المسافرين خاصة بتقوى الله، لأن المسافر ذاهب إلى حيث لا يعرفه أحد، وربما مر من حيث لا يراه أحد. فهو بحاجة أكثر إلى استصحاب تقواه وإلى إعمال تقواه . عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أريد سفرا فزودني . قال: زودك الله التقوى … الحديث([45]) . وعن أبي هريرة قال: أراد رجل سفرا فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني، فقال: “أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شَرَف”([46])

والتقوى يُحتاج إليها أكثر في المَواطن الصعبة، كمَواطن الحب والبغض، والغضب والطمع، والهوى والشهوة، والعداوة والخصومة… وفي قصة الثلاثة الذين انسد عليهم الغار، فتوسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة، نماذج بليغة من آثار التقوى، في مواطن لا ينفع فيها شيء سوى التقوى . وهذه قصتهم كما وردت في الحديث الصحيح.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: بينما ثلاثة نفر يتمشون، أخذهم المطر فأوَوْا إلى غار في جبل، فانحطت على فَمِ غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم . فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم . فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي، ولي صِبْيَة صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدَيَّ فسقيتهما قبل بَنيَّ، وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما . فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمَيَّ. فلم يزل ذلك دأبي ودأبَهم حتى طلع الفجر . فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء . ففرج الله منها فرجة فرأوا السماء . وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجالُ النساءَ، وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار . فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها . فلما وقعتُ بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها . فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم . وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرَق أرزٍّ[47]، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه فرغب عنه. فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها . فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعاءها فخذها. قال: اتق الله ولا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها. فأخذه فذهب به. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي ([48])

فهذه ثلاثة نماذج من أرقى وأتقى ما يتصور من السلوك البشري ومن السمو البشري. وكلهم فعلوا ما فعلوا من دون رقيب ولا حسيب من الناس، وبدون خوف ولا حرج من أحد. ولم يحوجوا أحدا إلى الدخول معهم في خصومات أو منازعات، ولم يشغلوا شرطيا ولا قاضيا ولا واليا. وإنما من تلقاء أنفسهم: اتقوا فارتقوا …

ـ فالأول تحمل الصبر والسهر، وتحمل معاناة صبيته وتصبيرهم، وهو في ذلك داخلَ بيته وفي جوف ليله، لن يلومه أحد إن لم يفعل، ولن يشكر له أحد إن فعل . وحتى والداه ناما، ولم يبق منهما انتظار ولا تطلع إلى شيء . ومع ذلك فإنه ظل وفـيّاً لبره وإحسانه، ورَعاً وتقوى وإخلاصا.

ـ والثاني مكث مدة طويلة يمني نفسه ويشهيها، ويجتهد ويتعب لنيل مبتغاه من محبوبته وفاتِنَتٍه، إلى أن ظفر بها وتمكن منها بلا حائل ولا مانع . لكنه في اللحظة الحرجة جاءه نداء التقوى: “يا عبد الله اتق الله ” . فنزع نفسه وقام تاركا شهوته بعد أن امتلكها وأمسك بها، وترك حتى المال الذي جمعه…

ـ وأما الثالث، فكان ـتصرفه أتقى وأرقى وأعجب مما سبق، لأن العمل الذي قام به، لم يكن صبرَ ليلةٍ، أو تقوى ساعةٍ، وإنما هو عمل سنين وصبر سنين وتقوى سنين . وواضح أن العامل صاحب الحق، حين جاء يطلب حقه الأصلي، وهو في أصله شيء يسير من الأرز، كان يتوقع جحودا أو نسيانا، أو مشاحة أو هزءا . فـلذلك توسل إلى صاحبه بتقوى الله، وبادره بالقول: اتق الله ولا تظلمني حقي . ثم قال بعد أن سمع ما سمع: اتق الله ولا تستهزئ بي…

لكنه فوجئ بأن تقوى صاحبه فوق ما كان يرجو، بل فوق ما كان يتخيل.

فلو أن الناس يتصرفون ويتعاملون على نحو هذا، وحتى بقليل من هذا، لوفروا على أنفسهم وعلى بعضهم ما لا يحصى من المشاكل والمتاعب، ومن النزاعات والخصومات، ومن الأوقات والنفقات، ولجلبوا لأنفسهم ومجتمعاتهم ما لا يحصى من المكاسب والمصالح والخيرات {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة الأعراف- 96].

وإذا ظهرت معاني التقوى وآثارها الإيجابية الشاملة على سلوك الإنسان في كل أحواله، فلا شك أن أحوج الناس إلى التحلي الدائم بخلق التقوى ومقتضياتها، هو مَن يضع الناسُ أرواحهم وأبدانهم وأسرارهم وأعراضهم أمانةً بين يديه. إن ما يمكن أن يقدمه ويحققه الطبيب التقي بتقواه وإخلاصه،من حفظ لأرواح الناس وأبدانهم، وتخفيفٍ لآلامهم ومعاناتهم، وتوفير لأموالهم وحهودهم، لا يقل حجما ولا أهمية عما يقدمه من ذلك بعلمه وحنكته. فالطبيب التقي – بفضل تقواه وأمانته – يصبح رقيبَ نفسه وحسيبَ نفسه، فيستقيم باطنه وسِرُّهُ، قبل ظاهره وجَهْرِه.  فنزاهةُ الطبيب التقي وأمانته لا تتوقف على القسم الطبي، مثلما أن نزاهة الحاكم التقي وأمانته لا تتوقف على القسم الدستوري. وأما من حُرم فضيلة التقوى وتركَ محاسبةَ نفسه بنفسه، فلا ينفع معه قسم يوناني ولا إسلامي.

ثانيا: الطب والشرع رأفة ورحمة

          من الأخلاق التي لا يستقيم بدونها شرع ولا طب: خُلُق الرحمة. وقد لخص بعض العلماء تكاليفَ الشرع ومقاصدَه كلها في كلمتين هما: “تعظيم الحق، والشفقة على الخلق”.

فما هي هذه الرحمة التي تجسد وتضم نصف الديانة ونصفَ مقاصدها؟

– من حيث المعاني اللغوية:

الرَّحْمَةُ والـمَرحَـمة، تعني: الرِقَّة، والمَغْفِرَة، والتَّعَطُّف، والحنان ([49])

ومن الألفاظ الأكثر قربا من معنى الرحمة، لفظ الرأفة.

 ومن اللغويين من يجعل الرأفة والرحمة شيئا واحدا، كما قال في المحيط: الرَّأْفَةُ: الرَّحْمَةُ([50]). ومنهم من يجعل الرأفة أخص من الرحمة ” الرَّأفَةُ: أشَدُّ الرَّحْمَةِ، أو أرَقُّها”([51])، وفي ( الصحاح ): “والرَّأْفَةُ أَرَقُّ من الرحمة، ولا تَكاد تقع في الكراهة، والرحمةُ قد تقع في الكراهة للمَصْلحةِ”([52])، يعني أن الرحمة قد تكون حتى في فعل شيء يكرهه الشخص المرحوم ويتأذى منه ولو أن له فيه مصلحة، كما في الإلزام بالأدوية وبالعلاجات الطبية المؤلمة، بينما الرأفة لا تكاد تستعمل في هذا المقام.

والتفريق بين اللفظين هو الأوفق لدلالة الاستعمال القرآني، الذي جمع بين اللفظين، وعطف الرحمة على الرأفة، في عدة مواضع منه، والعطفُ يقتضي المغايرة . قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد-27] وقال {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة-143، والحج-65]

قال ابن عاشور : “والرأفة: الرحمة المتعلقة بدفع الأذى والضرّ، فهي رحمة خاصة …فعطفُ الرحمة على الرأفة، مِنْ عطف العام على الخاص، لاستيعاب أنواعه بعد أن اهتم ببعضها”([53])

وإجمالا يمكن القول: إن معنى الرحمة يشتمل على معاني: الرقة، والرأفة، والعطف، والحنان، والمغفرة، والشفقة، والمودة، وما يتبع ذلك من دفع ضر أو أذى، أو جلب نفع، أو إسداء نصح، أو دفع ألم، أو تخفيفه، أو تقديم مساعدة أيا كانت … ويشتمل كذلك على نفي أضداد هذه الصفات، مثل القسوة والشدة والغلظة والإذاية …

– وأما المعاني الشرعية للرحمة، فهي تستوعب وتتضمن جميع المعاني اللغوية المذكورة، ثم تزيد عليها معانيَ ومجالاتٍ جديدة أعمقَ وأرحب. وفي الفقرات التالية أقدم بعض الإشارات التي تكشف لنا أن الرحمة التي جاءت بها الشريعة هي أعمق وأوسع مما نتصور، وأنها منهج حياة ومنهج سلوك، وأن من تخلق بالرحمة فقد فاز فوزا عظيما، ومن فقدها فقد خسر خسرانا مبينا.

فمن ذلك أن معاني الرحمة قد بثت وضُمِّنت فيما نعرفه ونذكره من أسماء الله تعالى وصفاته، لينهل منها الناس ويقتبسوا من إيحاءاتها. وسأوضح شيئا من ذلك بعد قليل بعون الله تعالى.

ومنها الرحمةُ بمعانيها وآثارها الدينية والأخروية، كالهداية والتوبة والمغفرة والتسبب إلى دخول الجنة والنجاة من النار. فمن جلب من ذلك شيئا لنفسه أو لغيره، فهي رحمة ما بعدها رحمة.

 ومنها الرحمة المضمنة في صلة الرحم، والرحمة بمعنى المصلحة، المنضوية في كافة الأحكام الشرعية…

ومنها الرحمة الظاهرة في كافة أعمال البر والإحسان والنجدة والإغاثة والمواساة، وخاصة للضعفاء والمرضى والمصابين. وهنا تطالعنا صورة الطبيب، باعتباره أرحم الخلق بالخلق، أو هكذا يُفترض فيه.

وباختصار جامع، نستطيع أن نقول: حيثما كانت الرأفة والرحمة والشفقة، فثم شرع الله ورضاه وثوابه. وحيثما كانت الغلظة والفظاظة والقسوة، فثم خروج عن شرع الله ودخول في سخطه وتعرضٌ لعقابه.

الرحمة في أسماء الله وصفاته

     الرحمة وما يندرج فيها ـ أو يتداخل معها ـ من المعاني التي ذكرتها، هي أوسع المعاني المضمنة في أسماء الله تعالى وصفاته . بل لا شك أن رحمة الله تعالى موجود معناها في كل أسماء الله وصفاته . ولكننا نعني الآن ـ خاصة ـ الأسماء المعبرة عن معاني الرحمة، بشكل ظاهر ومباشر.

     ـ من هذه الأسماء وفي مقدمتها، الاسمان الشهيران من أسماء الله تعالى: (الرحمن الرحيم) . وهما أكثر أسماء الله ذكرا في حياة المسلم، لأنهما موجودان في البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وفي الفاتحة (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) . ولست أريد البحث في معاني الاسمين الشريفين وما قيل في التفريق بينهما، ولكني أقول إجمالا: إنهما ـ معا ـ قد جمعا كل معاني الرحمة الإلهية، الممتدة في الدنيا والآخرة. وهي الرحمة التي قال عنها الله ـ سبحانه ـ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف-156]، وقالت عنها ملائكة الرحمن: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر-7]، وأخبر عن نفسه تعالى بأنه { الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ } [الأنعام-133]، وأخبر جل جلاله أنه كتبها على نفسه وضَمِنها لخلقه {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام-12]

فكل هذه الرحمة الشاملة واللامحدودة، مضمنة في دلالة الاسمين الجليلين: الرحمن الرحيم.

على أن مما ينبغي تقريره، أن هذه الرحمة الشاملة اللامحدودة، التي كتبها الله على نفسه، والتي وسعت كل شيء، منها ما هو عام يعطَى لجميع الناس، بل لجميع الخلائق، بسبب وبدون سبب، بطلب وبدون طلب، ومنها ما هو خاص بأهله متوقف على أسبابه . فإذا كان القرآن رحمة، فهي لا شك لمن يؤمنون به ويتلونه ويتبعون ما فيه . وإذا كانت شريعة الله رحمة، فهي لمن يعملون بها، وإذا كانت توبة الله ومغفرته رحمة، فهي للتائبين المستغفرين …

ـ ومن أسماء الله الدالة على الرحمة، اسم ( الرؤوف )، الذي يأتي مقترنا مع اسم الرحيم، كما تقدم قريبا . وقد رأينا العلاقة والفرق بين الرأفة والرحمة.

ـ ومنها اسم (التواب)، وقريب منه اسم (الغفور)، وهما ـ أيضاً ـ من الأسماء الحسنى التي يكثر ورودها في القرآن الكريم مقترنة مع اسم (الرحيم) . أذكر من ذلك الآيات الكريمات:

  • {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة- 37]
  • {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء-64]
  • ·       {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر- 49، 50]
  • { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام-54]
  • { إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل-119]

ـ ومنها اسم ( الـحَـنَّـان )، الذي يأتي مقترنا مع اسم آخر شبيه به، هو اسم ( الـمَـنَّـان )([54])، كما في حديث أنس بن مالك قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في الحلقة، ورجل قائم يصلي. فلما ركع سجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم اللهم إني أسألك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون بما دعا ) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: (والذي نفسي بيده لقد دعا باسمه العظيم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)([55])

     واسم (الحـنَّان) من الأسماء الأكثر قربا وشبها باسم (الرحيم). قال البيهقي في الأسماء والصفات: “وَمِنْهَا: الحنان . قال الحليميُّ : وهو الواسع الرحمة”([56])

     ونقل عن ابن الأعرابي قوله: “الحنان من صفات الله الرحيم، والـحنَانُ، مخففا: العطف والرحمة والرزق والبركة”([57])

ـ ومن الأسماء الأخرى، الدالة دلالة ظاهرة على صفة الرحمة في أسمائه تعالى: الغفار، العَفُوُّ، البَـر، المحسن، المنعم، الحليم، الكريم، الوهاب، الرزاق، الولي، الودود.

فهذه الأسماء لها معانيها الخاصة، لكنها كلها متضمنة معنى الرحمة، ودالة على مدى شمولها وتنوع مداخلها وصورها.

وإن من أجَلِّ العبادات وأعظمها شأنا في الإسلام: الذكر بهذه الاسماء والصفات وتدبرُها، بنية التخلق بها والاقتباس من أنوارها والتزود بنصيب منها. فعن صفات الله تنبثق وتتدفق كل صفة كريمة رحيمة يمكن أن يتصف بها الإنسان. وعن رحمة الله، وعن اسميه (الرحمن الرحيم)، انبثقت فطرة الرحمة، التي فطر اللـهُ الناسَ عليها . فمن رحمة الله أنه فطر الناس على الرحمة والتراحم، وعلى حب الرحماء والأفعال والصفات الرحيمة . فهم يحبون الرحمة منهم، ويحبونها لهم. ويسعدون ويسرون بالرحمة والتراحم، ويشقون ويألمون لأضداد الرحمة . وأما أضداد الرحمة، من قسوة وغلظة وتعذيب وإذاية للناس، فهي صفات وتصرفات كسبية، تؤخذ من البيئة والتنشئة الاجتماعية، وليست من الفطرة التي خلقت على حب الرحمة والبر والإحسان.

وفي مقدمة التراحم الفطري الذي وهبه الله للناس، تراحم ذوي الأرحام. ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بَـتَّـها بَـتَـتُّـه.([58])

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “الرحم شُجْنَة من الرحمن، قال الله: من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته.”([59])

قال الحافظ ابن حجر: ” … وأصل الشجنة ـ بالكسر والضم والفتح ـ عروق الشجر المشتبكة، والشَّجَن بالتحريك واحد الشجون، وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: ” الحديث ذو شجون “، أيْ يدخل بعضه في بعض . وقوله: ” من الرحمن ” أي أُخذ اسمها من هذا الاسم … والمعنى: أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله.”([60])

الرحمة في القرآن والسنة

     ورود لفظ الرحمة ومشتقاته في القرآن والسنة، يبلغ مئات المرات . وقد قدمتُ من ذلك – في الصفحات السابقة – ما استدعاه بيان معاني الرحمة وأنواعها ومجالاتها، وأُوردُ فيما يلي نماذجَ قليلة أخرى من النصوص القرآنية والحديثية، من مختلف مجالات الرحمة وأنواعها، ليظهر لنا من هذه وتلك أن خُلُق الرحمة أصل كبير من أصول الدين ومقصد عام من مقاصد شريعته.

أولا: من القرآن الكريم

  1. الكتب المنزلة كلها رحمة

 ـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس-57، 58]

ـ {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف-203، 204]

ـ {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف-52]

ـ {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام-157]

ـ {ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام -154]

ـ { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً }[هود -17]

  • وفي نظام الزوجية والقرابة ـ الذي جاءت به الفطرة والشريعة ـ رحمة ومودة وسكينة، كما في هذه الآيات:
  • {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم -21]
  • {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء -83، 84]
  • {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص-43]
  • وفي الحكم بالقصاص حكمة ورحمة، للمجتمع وأمنه وسلامة أرواحه . وفي مشروعية العفو في القصاص كذلك رحمة وحكمة، تنقذ الأرواح التائبة النادمة، وتنشر التصافح والتسامح والتصالح .وكل هذا يشير إليه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة – 178، 179].
  • وفي كل ما شرعه الله وكلفنا به رحمة وطريق إلى الرحمة {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة – 71]
  • ورحمة الله في بعض أنواعها ومراتبها، لا ينالها إلا من سعى إليها وتأهل لنيلها، كما تفيد ذلك آيات كثيرة منها:

ـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء – 174، 175]

ـ {الم تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان – 1-3] ـ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف – 56]

 ـ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة -155-157]=

ثانيا من السنة النبوية:

  1. عن أبى هريرة – رضى الله عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم يـيأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار »([61]). وفي رواية لمسلم: “إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ».([62])
  2. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}([63])
  3. = عَنْ جَرِير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “لا يرحم اللهُ من لا يرحم الناسَ”([64])
  4. عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([65])

     وقد خصص الإمام البخاري عدة أبواب من صحيحه للأحاديث الواردة في الرحمة، ومنها الباب السابع والعشرون من كتاب الأدب، وهو (باب رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ) . وفيه أورد – مما أورده – حديث أبي هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «بينما رجل يمشى بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له». قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً ؟! فقال: «في كل ذات كبد رطبة أجر» ([66])

وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها (أي خفها) فغفر لها»[67] 

قال أبو الحسن بن بطَّال  في تعليق عام له على أحاديث الباب من صحيح البخاري: “في هذه الأحاديث الحضُّ على استعمال الرحمة للخلق كلهم، كافرِهم ومؤمنِهم، ولجميع البهائم، والرفقُ بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفِّر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعمَلها في أبناء جنسه وفي كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا. وكلُّ أحد مسئول عما استُرعِيَه ومُلِّكه من إنسان أو بهيمة لا تقدر على النطق وتَبيـينِ ما بها من الضر. وكذلك ينبغي أن يرحم كل بهيمة وإن كانت في غير ملكه، ألا ترى أن الذي سقى الكلب الذي وجده بالفلاة، لم يكن له مِلكًا، فغفر الله له بتكلفه النزولَ في البئر وإخراجه الماء في خفه وسقيه إياه. وكذلك كل ما في معنى السقي من الإطعام، ألا ترى قوله عليه السلام: «ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة» ([68]). ومما يدخل في معنى سقي البهائم إطعامُها والتخفيف عنها في أحمالها وتكليفُها ما تطيق حمله، فذلك من رحمتها والإحسانِ إليها . ومن ذلك ترك التعدي في ضربها وأذاها وتسخيرها في الليل وفى غير أوقات السخرة، وقد نُهينا في العبيد أن نكلفهم الخدمة في الليل، فإن لهم الليل ولمواليهم النهار، والدواب وجميع البهائم داخلون في هذا المعنى”([69])

     وقال عز الدين بن عبد السلام في بيان كيف يحقق للعبد التحلي والتخلق بصفتَي الرأفة والرحمة – من صفات الله -: “والتخلق بهما، برحمة كل من قدرتَ على رحمته بأنواع ما تقدر عليه من الرأفة والرحمة، حتى تنتهي رحمتك إلى الذباب والذر …” ([70])

نبيُّ الرحمة وشريعةُ الرحمة

إذا كانت الرحمة صفة عظيمة من صفات الله العُلَى، واسماً جليلا من أسمائه الحسنى، وهي فطرته التي فطر الناس عليها، فمن الضروري ـ ومن الطبيعي ـ أن تكون رسالاته وشرائعه لخلقه على هذا المنوال . فشريعته تعالى لخلقه، مطابقة ومكملة لفطرته التي فطرهم عليها.”فالتشريع الديني أثر من آثار رحمة الله للعباد ومنهل من مناهل اللطف بهم، حيث جعل بينهم وبين المضار حصونا منيعة، وساق إليهم المنافع كما يساق الماء إلى الأرض الجُرُز…”([71])

وقد بين الله تعالى أن البعثة المحمدية ـ ومثلها بعثة كافة الرسل ـ إنما هي رحمة ولأجل الرحمة:

  • {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء-107]،
  • {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [التوبة-61]
  • ·        وفي الحديث ” إنما أنا رحمة مهداة “([72]).
  •  وقيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ادعُ اللهَ على المشركين والعنهم، فقال: إني إنما بُعِثْتُ رحمة، ولم أُبعَثُ لعّانا}([73])
  • ·       . وفي الدعاء المأثور{اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة}([74])

ومن أجمع الكلمات وأصدقها في وصف الشريعة الإسلامية، كلمة ابن قيم الجوزية، التي يقول فيها: “فإن الشريعة …عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالحُ كلها، وحكمة كلها ([75])

وهذه قبسات تطبيقية من شمائل “النبي الرحمة المهداة”، تظهر لنا مدى تخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلق الرحمة في عامة أفعاله وأقواله.

  • {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة-128]
  • {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب- 6]
  • {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران -159]
  • حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال، قال رجل يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يُطَول بنا فلان، فما رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في موعظة أشد غضبا من يومئذ فقال: « أيها الناس، إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة »([76])
  • وحديث أنس بن مالك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه »([77])
  • حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال أتينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن شَـبَـبَـة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة . وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رحيما رقيقا، فظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، فسألَنا عن من تركنا من أهلنا، فأخبرناه فقال: «ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم … »([78])

الرحمة ومسألة القتل الرحيم ؟

من القضايا الطبية ذاتِ الصلة بخُلُق الرحمة، قضية ما يسمى بالقتل الرحيم، وهو قيام الطبيب بالإجهاز على حياة المريض المعذب الميئوس منه طبيا، وذلك بطلب من المريض نفسه، أو بطلب من ذويه، إذا كان هو في غيبوبة تامة متواصلة. ويتم هذا القتل “الرحيم”، بداعي الرحمة والشفقة وإنهاء المعاناة.

وهذه القضية قد أخذت حظها من البحث الفقهي، وأجمع فقهاء الإسلام على تحريم هذا الفعل وأنه قتل للنفس لا يجوز بحال. ولذلك لا حاجة بي للاستطراد في هذا الاتجاه، كما أن ذلك ليس من طبيعة هذا البحث ولا هو من غرضه. ولكني أعرج فقط على الجانب الخلقي والمقاصدي، الذي تسوَّغُ به هذه القضية، على أساس أن فيها رحمة للمريض وتخليصا له من عذابه الذي لا فائدة ترجى من وراء تحمله.

والحقيقة أن هذه نظرة قصيرة وقاصرة…

فهي أولا تفتح باب المجازفة والاستهانة بالأرواح البشرية وحرمتها، خاصة وأن احتمالات الشفاء – مهما تضاءلت – تظل قائمة.

ثم إنه ليس هناك ألم يمكن أن يكون وزنه أرجحَ من حفظ الروح البشرية. ولو جاز تقديم رفع الألم على حفظ النفس، لجاز الانتحار والمساعدة عليه، لمن اشتدت بهم الآلام، وسدت في وجوههم الآمال.

وقد ذكرتُ من قبل أن الرحمة في العقيدة الإسلامية تشمل رحمة الآخرة وما يفضي إليها من ثواب وتوبة ومغفرة. وقد صح في الأحاديث النبوية أن الآلام فيها محو السيئات ورفع الدرجات، تخفيفا من ربكم ورحمة. فقد قال عليه الصلاة والسلام: “ما يصيب المسلمَ من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه”.[79]

وقال أيضا: “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة”[80].  وهذه رحمة أيُّ رحمة.

وكل هذا من أجل أن يصبر المصاب ويتَقَوَّى على محنته، ويتشبث بأمله، ويحافظ على حياته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

=======

أحمد الريسوني

الرباط في7 شوال1433هـ – 25غشت2012م


[1] – ذُكرتْ هذه الأوامر في القرآن المكي بصورة مبدئية عامة, دون تفاصيل تطبيقية , ولذلك يعتبرها الشاطبي نوعا من الكليات والأصول الأساسية.

[2] – الموافقات 3/103

[3] – أي: كيفما كان نوع الاعتداء.

[4] – أحكام القرآن 4 / 89 ـ 90

([5]) رواه مسلم وأبو داود،، ورواه النسائي وأحمد بلفظ: ” إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن”.

([6]) جامع البيان للطبري 23/528.

([7]) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام لابن عاشور ص207، دار النفائس بالأردن – 1421/2001.

([8]) بصائر ذوي التمييز للفيروزبادي 2/568.

([9]) رواه البيهقي في شعب الإيمان 6/242 (8016) عنه به.

([10]) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

[11] –  مكارم الأخلاق للطبراني – (1 / 15) 

([12]) رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال: غريب من هذا الوجه.

([13]) رواه الترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال: حسن غريب.

([14]) أي نزل ضيفا على أحد فلم يكرمه كما ينبغي.

([15]) شعب الإيمان للبيهقي 6/230.

([16]) رواه البزار 15/364 (8949)؛ والبيهقي في الكبرى 10/191 (21301) به؛ ورواه أحمد 14/512-513 (8952)؛ والبخاري في الأدب المفرد ص 104 ( 273 )؛ والحاكم في المستدرك 2/613؛ والبيهقي في الشعب6/230 (7978 ) بلفظ “صالح الأخلاق”، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي؛ ورواه مالك في الموطأ 2/904 بلاغا؛ وعنه ابن سعد في طبقاته 1/193 بلفظ “حسن الأخلاق ” كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([17]) رواه البخاري ومسلم.

([18]) رواه أحمد 3/266 (1740)..

([19]) رواه أحمد 40/242 (24204)، 41/213 (24678)؛ والترمذي 5/9 (2612)؛ والنسائي في الكبرى 8/256 (9109)؛ والدارمي 2/231 (2795) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الترمذي: صحيح.

[20]– شعب الإيمان للبيهقي 1/61.

[21] – العقيدة والعبادة والسلوك، ص 134.

([22]) تهذيب الأخلاق لابن مسكويه ص 19.

([23]) نفسه ص 20.

([24]) ميزان العمل للغزالي ص 27.

([25]) نفسه ص 25.

([26]) حجة الله البالغة للدهلوي 1/191- 194، نشر مكتبة الكوثر للنشر والتوزيع بالرياض، الطبعة الأولى 1420/1999.

([27]) دستور الأخلاق في القرآن، لمحمد عبد الله دراز ص 681.

([28]) الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن حبنكة الميداني 1/517.

([29]) المرجع السابق 2/581.

[30] – حفظ الضروريات وغيرِها من المصالح ليس محصورا – كما يتوهم بعض الناس – في الصيانة والحماية لما هو موجود منها، وهو ما يسميه العلماء بالحفظ العدمي، بل هو – أولا – السعيُ إلى إيجادها وإقامتها وتنميتها وتوفير كافة الأسباب المؤدية لذلك. وهو ما يسميه العلماء بالحفظ الوجودي. فما من “حفظ” إلا وله وجهان: وجودي أولا، وعدمي ثانيا.

[31] – الموافقات للشاطبي – (3 / 14)

[32] – مفاتيح الغيب (27 / 38)  – نشر دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى –  1421هـ – 2000 م

[33] – تفسير القرطبي (15 / 299) تحقيق هشام سمير البخاري – الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية – 1423 هـ/ 2003 م 

[34] – تفسير القرطبي (7 / 192) 

([35]) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام لابن عاشور ص207، دار النفائس بالأردن – 1421/2001.

([36]) المفردات للراغب 2/688.

([37]) رواه مسلم 3/1401( 1776) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه؛ ورواه أحمد 2/453-454 (1347)؛ والنسائي في الكبرى 8/34 (8585) من حديث علي رضي الله عنه .

([38]) المفردات للراغب 2/688.

([39]) رواه البيهقي في شعب الإيمان 5/63(5788)؛ والزهد الكبير له 357 (925) (929)؛ والبغوي في شرح السنة 14/341.

([40]) رواه/ابن المبارك في الزهد والرقائق 473-474 (1343)؛ وابن أبي شيبة في المصنف 15/599 (30993)، 19/357 (36308)؛ وأبو نعيم في الحلية 3/64 (209)؛ والبيهقي في الزهد الكبير 367 (963).

([41]) رواه البيهقي في الزهد الكبير: 367.

([42]) رواه أحمد 36/380-381 (22059)؛ والترمذي 4/355-356 (1987)، وقال: حديث حسن صحيح.

([43]) رواه الترمذي 4/363 (2004)؛ وابن ماجه 2/1418 (4246)؛ وقال الترمذي: حديث صحيح غريب.

([44]) رواه ابن حبان في صحيحه 2/78 (361)؛ وأبو نعيم في الحلية 1/168.

([45]) رواه الترمذي 5/500 (3444)؛ والحاكم 2/107( 2477 )؛ وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

([46]) رواه أحمد 14/62 (8310)، 117 (8385)، 15/451 (9724)؛ والترمذي 5/500 (3445)؛ والنسائي في الكبرى 9/188 (10266)؛ وابن ماجه 2/926 (2771)؛ وقال الترمذي: حديث حسن.

[47] – الفرق، بفتح الراء وتسكينها، إناء يعادل ثلاثة آصع. والمراد  أنه يعطيهم أجرتهم بمقدار من الرز.

([48]) رواه البخاري 3/79 (2215) وفي مواضع أخرى؛ ومسلم 4/2099-2100 (2743) واللفظ له.

1- انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي 3/229، الصحاح في اللغة للجوهري 1/247، لسان العرب لابن منظور 12/230، المحيط في اللغة للصاحب ابن عباد 1/159.

([50]) المحيط في اللغة للصاحب ابن عباد 2/436.

([51]) القاموس المحيط للفيروزآبادي 2/381.

([52]) لسان العرب لابن منظور 9/112.

([53]) التحرير والتنوير لابن عاشور 14/423.

([54]) المنان: المنعم المعطي.

([55]) رواه أحمد 20/61 (12611)، 21/192 (13570)؛ وأبو داود 2/284 (1490)؛ والترمذي 5/550 (3544)؛ والنسائي 3/52 (1300)؛ وابن ماجه 2/1268 (3858) وقال الترمذي: حديث غريب.

([56]) الأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي 458 1/205، ط 1 – مكتبة السوادي بجدة.

([57]) الأسماء والصفات 1/208.

([58]) رواه أحمد 3/213(1680)، 216(1686)؛ وأبو داود 2/387-388 (1691)؛ والترمذي 4/315-316 (1907) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

([59]) رواه البخاري 8/6 (5988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([60]) فتح الباري لابن حجر 17/115.

([61]) رواه البخاري 8/99 (6469).

([62]) صحيح مسلم 4/2108 (2752)/(19) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([63]) رواه أحمد 11/33 (6494)؛ وأبو داود 5/330 (4902)؛ والترمذي 4/323-324 (1924) وقال: حديث حسن صحيح.

([64]) رواه البخاري 9/115 (7376)؛ ومسلم 4/1089 (2319).

([65]) رواه البخاري 8/10 (6011)؛ ومسلم 4/2999-3000 (2586)/(66).

([66]) رواه البخاري 3/132-133 (2466)، 8/9-10 (6009)؛ ومسلم 4/1761 (2244).

[67] –   صحيح مسلم

([68]) رواه البخاري 8/10 (6012)؛ ومسلم 3/1189 (1553)/(12) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

([69]) شرح صحيح البخاري لابن بطال 9/219، 220، ط . مكتبة الرشد بالرياض.

([70]) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال للعز بن عبد السلام ص 40، ط. بيت الأفكار الدولية.

([71]) العبارة للشيخ محمد العزيز جعيط، من مقاله “المقاصد الشرعية وأسرار التشريع”، المجلة الزيتونية، المجلد الأول – العدد الثالث – رجب 1355/سبتمبر1936.

([72]) رواه الحاكم في المستدرك 1/35؛ والبزار في مسنده 16/122 (9205)؛ والطبراني في الأوسط 4/8 (3005)؛ وفي الصغير (الروض الداني 1/168 رقم 264) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . وقال الحاكم: صحيح على شرطهما . ووافقه الذهبي.

([73]) رواه مسلم 4/2006-2007 (2599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([74]) رواه أحمد 28/478(17240)؛ والترمذي 5/569 (3578)؛ والنسائي في الكبرى 9/244 (10419)؛ وابن ماجه 1/441 (1385) من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

([75]) إعلام الموقعين لابن القيم 3/3، ط . دار الجيل، بيروت.

([76]) رواه البخاري 1/30 (90)؛ ومسلم 1/340 (466).

([77]) رواه البخاري 1/143 (709)؛ ومسلم 1/343 (470)/(192).

([78]) رواه البخاري 1/128 (628)، 138 (631)؛ ومسلم 1/465 (674)/(292).

[79] – الحديث متفق عليه

[80] – رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى