مقالاتمقالات سياسية

إقامة الدين بين الفرد والجماعة والدولة

إقامة الدين بين الفرد والجماعة والدولة 

نشر في التجديد يوم 28 – 05 – 2002


حاولت في الحلقتين السالفتين رسم صورة مصغرة ومركزة عن شرائع الإسلام بمختلف محتوياتها ومستوياتها، سواء على صعيد الأصول والأركان، أو على صعيد الفروع والأغصان. وهو ما أسميته بخريطة الإسلام
وقد أداني النظر والتأمل في هذه الخريطة إلى ملاحظة الحجم المحدود للسلطة السياسية وما يتوقف عليها، بينما تبقى المساحات الشاسعة والمستويات الشاهقة، مجالات للعمل الفردي والجماعي الذي لا يتوقف على الدولة إلا بشكل ثانوي تكميلي. كما أداني النظر إلى أن كثيرا من الأحكام والتكاليف الشرعية التي تعد من اختصاص الدولة أو متوقفة عليها، هي في الأصل مما يجب ويمكن أن يقوم به الأفراد وتقوم به الجماعات، وأن إسناد ذلك إلى اختصاصها ومسؤوليتها إنما هو من صنع التاريخ والواقع لا من صنع الشرع والشارع.
وأنا لا أنكر الدور الإيجابي والكبير للدولة حين تضطلع ببعض الوظائف الشرعية أو تقوم بدعمها وتشجيعها، وأن ذلك واجب عليها ومحمود منها، ولكن الذي أنكره هو ادعاء اختصاصها وتفردها بذلك، أو أنه لابد من يدها ومن إذنها، وبدون هذا أو ذاك تظل الأمور معطلة ومعلقة.
والحقيقة أن المجال الوحيد الذي لا يمكن الاستغناء فيه عن دور الدولة واختصاصها وتفردها به هو المجال القضائي، وخاصة ما يحتاج منه إلى الإلزام والمعاقبة، فمحاكمة الجناة والمعتدين، وإيقاع العقوبة عليهم، وإنصاف للمظلومين وتمكينهم من حقوقهم، كل ذلك لابد له من سلطة معترف بها ومسلم بها، وتملك من القوة ما يمكنها من محاكمة الناس وتنفيذ الأحكام عليهم.
ولما أعلم الباري سبحانه نبيه داود عليه السلام بأنه قد جعله خليفة لم يحدد له من وظائف هذه الخلافة سوى الحكم بين الناس بالعدل يقول تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) سورة ص 26.
فالقضاء العمومي الملزم تختص به السلطة الحاكمة، بل هو أخص خصائصها. ومع ذلك فإن الإسلام قد فتح الباب لعموم المسلمين للإسهام في بعض أنواع القضايا والنزاعات؛ وأعني بذلك التحكيم الأهلي في النزاعات الزوجية، وذلك قوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) سورة النساء 35.
وقد تميز الإمام مالك ومذهبه بتوسيع صلاحيات هذين الحكمين إلى حد يجعل من حقهما الحكم بالتفريق بين الزوجين. كما أنه رحمه الله يوسع مجال التحكيم ويتجاوز به مجال النزاعات الزوجية (1).
ومما تختص به الدولة كذلك، أو على الأقل تعتبر هي الأصل فيه وفي ممارسته، إعداد القوة العمومية لحفظ الأمن، على سبيل الوقاية من الاعتداءات ومنعها أو إيقافها في مهدها.
كما أن الأمن الخارجي، بما يتطلبه من تنظيم الجهاد والدفاع وتوابعهما، ومن إعداد العدة لذلك، يعتبر كذلك وظيفة سلطانية بالدرجة الأولى، وإن كان هذا لا يمنع جماعة المسلمين ولا يعفيها من القيام بهذا الواجب، حين عجز الدولة أو تخليها أو عدم وجودها.
وفريضة الزكاة، لا يمكن إقامتها كما أنزلت، إلا بواسطة السلطة الحاكمة. فهذا مقتضى القرآن والسنة، وهذا مقتضى الواقع. ولكن إذا تخلت الدولة عن واجبها في هذا المجال، هل تسقط فريضة الزكاة وتتعطل؟
لا أبدا. بل حتى التنفيذ الجماعي للزكاة لا يسقط. بل يبقى واجبا، ويبقى ممكنا، إلا إذا منعته الدولة بقانونها وقوتها. وهناك عدد من الدول الإسلامية اليوم، تقوم فيها منظمات وجمعيات شعبية بتنظيم أمر الزكاة، جمعا وحفظا وتوزيعا. وهذه درجة وسط بين التطبيق السلطاني والتطبيق الفردي، وما لايدرك كله لا يترك جله.
وبعد ذلك، نصل عند الضرورة إلى التطبيق الفردي للزكاة. فتخلي الدولة لا يعفي المجتمع بعلمائه ودعاته ومنظماته. وتقصير هؤلاء لا يعفي الأفراد ولا يسقط مبادراتهم.
فهذه أهم المجالات التي تتوقف بدرجة أساسية وكبيرة على الدولة. وهي كما نلاحظ محدودة ومحدودة جدا، ثم هي تبقى قابلة ومحتملة لتدخل الجماعات والأفراد، بصورة مساعدة للدولة، أو بصورة بديلة عنها عند الاقتضاء والاضطرار.
وحتى لو أراد أحد أن يضيف ويوسع من هذه المجالات التي تتوقف بشكل أساسي وضروري لا غنى عنه على الدولة، ويجعل ذلك اختصاصا لها لا يدخله غيرها، فإنه لن يتجاوز أصابع اليدين.
ويبقى ما سوى ذلك من تكاليف الدين وشرائعه وهو كثير وغزير وشاسع وفسيح خطابا شرعيا للجماعات والأفراد، ومجالا لمبادراتهم وتطبيقاتهم وتعاونهم وجهادهم
فكيف ذلك؟
للحديث بقية
الدكتور أحمد الريسوني 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى