أبحاثأبحاث مقاصدية

الحداثيون ومقاصد الشريعة

الحداثيون ومقاصد الشريعة

الحداثيون أنواع وأشكال

المقصود بالحداثيين: المفكرون والكتاب والسياسيون الذين يتبنون منظومة الحداثة الغربية وقيمها وفكرها وأنظمتها، وينادون بالسير في طريقها واتخاذها مرجعا ومنهجا ونموذجا لتحقيق التقدم ومسايرة العصر في عالمنا العربي والإسلامي. ولكني أتحدث الآن بصفة خاصة عن الحداثيين الذين اشتغلوا بقضايا الدين والتراث الديني الإسلامي، ويمكن وصفهم بالإسلاميين[1] الحداثيين.

ومعنى هذا أن كلامنا ينحصر في الدائرة الإسلامية، وبالذات في نماذج منها، ممن اهتموا بالإسلام وبالتراث الإسلامي.

ومعلوم أن الحداثيين أشكال وألوان، وهم في موقفهم من الشريعة وأصولها ومقاصدها على درجات ودركات. وعلى العموم فهم كما قال الله تعالى { لَيْسُوا سَوَاءً } [آل عمران : 113].

فمنهم مناضلون شرفاء، ومنهم نفعيون سفهاء، ومهم مؤمنون صلحاء، ومنهم ملحدون صرحاء، ومنهم متأرجحون بين هؤلاء وهؤلاء، ومنهم منافقون خبثاء، حتى إن أحدهم سئل مرة: لماذا تطبع كتبك بحرف صغير؟ فقال: حتى لا يقرأها مشايخ الأزهر فيكفرونني!

مقاصد الحداثيين الانسلاخسلاميين

هناك طائفة من هؤلاء “الإسلاميين الحداثيين” يبحثون ويدرسون التراث الإسلامي بروح عدائية رافضة. فهم قد صرفوا كل طاقتهم وجهدهم لنقد الإسلام في أصوله العقدية والمرجعية، والعملِ على تسفيهها ونسفها، لبناء الحداثة على أنقاضها. فالإسلام والحداثة عندهم ضدان لا يجتمعان، متوازيان لا يلتقيان. ويرون أن الإسلام غير قابل للتحديث، والحداثة غير قابلة للأسلمة. ولذلك فهم قد اختاروا نقض الإسلام لبناء الحداثة، واستجلاب الحداثة لمحو الإسلام. فهؤلاء لا يؤمنون لا بالشريعة ولا بمقاصد الشريعة، ولا يرون مقاصد الشريعة تفي بغرضهم، على أي وجه أخذت وبأي صورة وُظفت. وإذا تكلموا عنها أو أحالوا عليها فهو مجرد تعامل تكتيكي أو تمويهي. وهؤلاء هم الذين وصفهم المفكر التونسي الحداثي الدكتور محمد الطالبي بالانسلاخسلاميين. ويقصد أنهم منسلخون من الإسلام، ولكنهم قد يتظاهرون به أحيانا. وقد اشتَق لهم هذا الاسم من قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الأعراف : 175]. وهي الآية التي افتتح بها كتابه الذي سماه: (ليطمئن قلبي)، وتناول في جزئه الأول (قضية الإيمان وتحديات الانسلاخسلامية…)

يقول الطالبي: “الانسلاخسلامية اختيار لتأسيس الحداثة على أساس الانسلاخ من الإسلام، تارة بطريقة صريحة مكشوفة من طرف البعض، وتارة أخرى بطريقة مقنعة بهتانية خفية من طرف البعض الآخر” (ص33).

ثم يقول: ” كلا الصنفين يعتبران القرآن عملا بشريا، يجب أن ترفع عنه القداسة، وتقع مقاربته مقاربة أنطروبلوجية، تستخدم كل العلوم الإنسانية، كما وقع ذلك وتم بالنسبة لباقي الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل، التي رفع عنها النقد الحديث القداسة” (ص35)

ويعتبر أن هذه ” الانسلاخسلامية — في أسلوبها ومنهجها ونتائجها – امتداد للنقد المسيحي الاستشراقي للقرآن خاصة، وللإسلام عموما” (ص36)

وفي حين عبر عن احترامه للصنف الصريح من الطائفة الانسلاخسلامية، واحترامِه لحريته الاعتقادية، يعتبر أن “الصنف المقَنَّع غش ودسيسة، فرضُ عينٍ علينا أن نهتك قِناعه … لأن عدم الإفصاح عن الانسلاخ من الإسلام صراحة، من باب الكيد والتدليس المقصود، قصد نشر الانسلاخسلامية خلسة، بطرق التمويه والكذب والنفاق” (ص37)

وقد سمى بعضا من هؤلاء بأسمائهم فقال: “من أهمهم وأكثرهم تأثيرا في المجتمع الإسلامي، والجامعي منه على الخصوص، نذكر:

– الجزائري مالك شبال، زعيم إسلام الأنوار. وهو إسلام يستدعي الاستغناء عن الله والإرسال به إلى جبال أولامبOlympe، مَقرِّ آلهة اليونان، الذي كان عليه ألا يغادره قط.

– والفرنسي من أصل قبائلي محمد أركون، تلميذ الآباء البيض، الذي حبَّس حياته كلها على هدم بنية القرآن، وعلى التنديد به ككتاب عنف يهدد سِلم البشرية …

– والتونسي عبد المجيد الشُّرْفي” (ص42).

وقد خصص الدكتور الطالبي حيزا واسعا من الكتاب لنقد زميله عبد المجيد الشرفي وفضح انسلاخيته المموهة. ووصَفَه بأنه منظر الفكر الانسلاخسلامي، وبأنه مؤسس مدرسة رفع القداسة عن القرآن بكلية مَنُّوبة بتونس. (ص42 – 43)

على أن خدمة المشروع الحداثي لعبد المجيد الشرفي، لا تقف عند مجهوده الشخصي، في مؤلفاته ومقالاته ومحاضراته، بل هي تقوم على شبكة مذهبية واسعة من تلاميذه وأتباعه ممن درَّسهم وأشرف عليهم، أو ممن بتوظيفهم ورعايتهم ماديا ومعنويا…

– ومن منتوجات هذه الشبكة كتاب بعنوان (مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد) لنور الدين بوثوري. والعنوان الفرعي للكتاب يشير إلى أن أصول الاجتهاد المعتمدة — بما فيها المقاصد — لم تعد صالحة لتلبية طموح المجتهد الحداثي.

وقد تعرض المؤلف لكتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية) للشيخ ابن عاشور، فاعتبر أنه لم يأت بجديد ولا بطائل، لكونه لم ينقض ولم يزحزح منظومة الحلال والحرام. قال المؤلف: “ما قد يُعد جديدا فعلا في هذا الباب هو تتبع ابن عاشور لهذه المسائل بكل دقائقها، وتعليل أحكامها على أساس المقاصد لا على أساس العلل الفقهية المتعارف عليها. فانحصر عمله إذن في استبدال القصد بالعلة، من دون أن يفضي ذلك إلى تقرير أحكام، استنادا إلى المقاصد، تكون مخالفة للأحكام المقامة على علل الفقهاء. فالحلال ظل حلالا والحرام حراما. وهكذا في سائر الأحكام.“[2]

وتأكيدا لمسعى الانقلاب الصريح على الأحكام الشرعية يقول المؤلف: “المسلم اليوم لم يعد يستسيغ الكثير منها؛ كتعدد الزوجات والجلد والرجم … ولذلك ارتفعت عديد الأصوات تنادي بضرورة الاجتهاد في الأحكام النصية نفسها[3]».

ومن دواعي السخرية أن يَعتبر هذا “المجتهدُ الحداثي” أن المسلم لم يعد يستسيغ تعدد الزوجات، بينما نظامهم الحداثي الحاكم في تونس قد اضطر إلى منع التعدد وتجريمه بقوة القانون، وإلى محاربته والعقوبة عليه بقوة الدولة!! وكذلك نجد جل الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي تخوض معارك متواصلة لإقرار منع التعدد، أو تضييقه على الأقل.

وإذا صح أن المسلم المعاصر لم يعد يستسيغ تعدد الزوجات، فلماذا كل هذا العناء لمحاربته ومنعه؟

ومعلوم أن الدكتور محمد الطالبي — وهو أستاذ الحداثيين بالجامعة التونسية — هو ممن يستسيغون التعدد ويقدمون له حججا ومسوغات علمية تاريخية اجتماعية، وليست فقهية شرعية، مع أن الدولة التونسية الحديثة (والحداثية) تعتبر كل دفاع عن التعدد، وكل مساس بمنعه، رجعية ومناهَضة للدولة ومنجزاتها التاريخية المقدسة.

— ومن آخر ما أنتجته لنا هذه الشبكة أيضا كتاب بعنوان (جدل الأصول والواقع) للدكتور حمادي ذويب.

قال الدكتور محمد أبو الخير السيد في عرضه التحليلي للكتاب[4]: “يختم الدكتور ذويب كتابه بتقريره أن محاولات تجديد أصول الفقه رغم جرأتها في نقد الأصول أو نفي حجيتها، فإنها وقفت أمام منطقة لم تستطع الاقتراب منها، وهي “حجية القرآن نفسه” (ص819)، ثم يؤكد عدم تجانس أصول الفقه مع المنظومات القانونية الحديثة، فيرفض المصادرة التي يتأسس عليها الفكر الأصولي والقائلة بأن جميع أعمال الإنسان تخضع للدين ولا مشروعية لها إلا منه، ويرى في التشريعات المتأتية من القرآن أو السنة أو الصحابة عائقًا أمام ظهور تشريع وضعي، وبناءً على تاريخية أصول الفقه التي وصل إليها بحثه، فإن كل محاولة لزرعه في الواقع الحديث محكوم عليها بالفشل، لأنها تشبه محاولة زرع عضو فاقد للحياة في جسم حي، كما أن “الاكتفاء بتطعيم المنهج الأصولي بما يبدو ملائمًا لروح العصر لم يعد مقبولاً، لأن ذلك المنهج له منطقه الداخلي ولا يتسنى تنقيحه دون تشويهه” (ص823)، وعندئذٍ فإن الوصول إلى تشريع إنساني ينزع المركزية من رجال الدين، ويجعل كرامة الإنسان وحريته غاية مثلى لا يتحقق إلا عن طريق ثورة فكرية لا تقف عند عتبة المسلمات الأصولية والمدونات التي مُنع النظر والاجتهاد فيها، بل تتخطاها وتتجرأ عليها لإعادة فحص كل ما وصلنا من القدامى، دون استثناء أي نص مهما بلغت قداسته، وأيِّ مجال مهما طغت بداهته وحرمته” (ص824).

…يُتبع


[1] — أعني بالإسلاميين هنا ما عناه أبو الحسن الأشعري حين سمى كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين). فهم أهل صلة بالإسلام وينتمون إليه بصورة من الصور. وبعض هؤلاء الحداثيين قد يصح وصفهم بالإسلاميين باعتبار تخصصهم في الدراسات الإسلامية (إسلامولوجي). فهم صنف من المستشرقين وامتداد لهم، أو هم مستشرقون محليون.

[2] — مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد(ص49)

[3] مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد(ص:155)

[4] — نقلا عن موقع ببليو إسلام

مقاصد الحبيب بورقيبة

في مطلع الستينيات من القرن العشرين المنصرم، أحدث الرئيس التونسي آنذاك رجة وجدلا كبيرا حول صيام شهر رمضان. ونظرا لخطورة القضية يومها وإلى اليوم، وحرصا على الأمانة والدقة الكاملة في عرض الموضوع، فإني أنقل كلام بورقيبة بنصه الكامل في الموضوع، مع فتوى الشيخ محمد العزيز جعيط، مفتى تونس يومها، بعد ما أقحمه بورقيبة في تبرير فكرته ودعوته. وأنقل معهما تقديما لأحد المدافعين عن بورقيبة “المجتهد الأكبر”، وهو الأستاذ شوقي بوعزة[1].

“نقدّم لقرّاء (الأوان) وثيقة مهمّة في معالجة المسألة الدينيّة في الإسلام تتضمّن أوّل تأويل من زعيم دولة “دينها الإسلام”، لركن الصيام تأويلا يخالف صريح النصّ القرآني ويستند إلى مقاصده وبعضِ ما ورد في السنّة النبويّة، بقدر ما يستند إلى إعمال العقل والنظر في المصلحة الفرديّة والعامّة.

وقصدنا من هذا أن نوثّق التوثيق العلميّ للمسألة أوّلا، وأن نطلع القرّاء في تونس وفي العالم الإسلاميّ ثانيا علىأسلوب الحبيب بورقيبة في معالجة ما اعتبره من أمور الدين عائقا يحول دون التحديث وبناء مجتمع متطوّر، وأن نوضّح ثالثا حقيقة موقفه من ترك صيام رمضان من خلال استدلاله وحجاجه الذي نترك للقرّاء الحكم عليه دون أن يحتاجوا إلى ما تحفل به الكتابات الإخوانيّة والأصوليّة الرجعيّة، هنا وهناك، من ضروب المغالطة والتزييف التي تختم بالمسارعة إلى الاتهام بالردّة والمروق عن الدين.

وإننا نقدّر حجم الصدمة النفسيّة التي يصاب بها المسلم العاديّ إذ يسمع مجرّد سماع بأنّ بورقيبة دعا إلى ترك الصيام، فما بالك بمن له حظّ ولو محدود من المعرفة الدينيّة، دون أن نتحدّث عن الفقهاء التقليديين المتمسّكين بالتأويل المستقرّ تاريخيّا للدين والعقائد. ولكننا نعتقد أنّ قراءة نصّ خطاب بورقيبة يضعف من غلواء هذه المواقف المتسرّعة، التي لم تتَّبع التحليل في تدرّجه ولم تنظر في الحجج المقدّمة. فما انفكّ بورقيبة يقدّم تصوّراته للمسائل (التي تقرّرت عبر التاريخ الديني والاجتماعي على صورة تخالف ما يدعو إليه) على أنّها اجتهادات من داخل المنظومة الإسلاميّة، تعبّر عن جوهر الإسلام كما ينبغي فهمه في عصرنا الحالي، بما أنّ الدين الإسلاميّ عنده صالح لكلّ زمان ومكان، ولكنّ الكسل الفكريّ والتقليد الأعمى وإيمان العجائز وعدم إعمال العقل هي ما يقعد بالمسلمين عن فهم دينهم الفهم الموافق لمقتضيات العصر ومتطلّبات التطوّر.

وإذ نترك للقرّاء متابعة تحليل بورقيبة لواجب الصيام في علاقته بواجب العمل، والحاجة إلى التفرّغ لبناء الأمّة ونهضتها قبل أداء الفريضة الدينيّة، وإذ نترك لهم اكتشاف الأساليب الخطابيّة المعتمدة في الإقناع والحجاج، فإنّنا نشير إلى أنّ الخطاب الذي ألقاه الزعيم بورقيبة لم يكن مخصّصا لرمضان، ولم يلقه أصلا في شهر رمضان، بل ألقاه يوم 5 فيفري من سنة 1960 أمام ثلّة من إطارات الدولة ليقدّم لهم مشروعا أعدّته الحكومة لتشغيل حوالي مائة وخمسين ألف عاطل عن العمل، كانت الدولة تحتاج إلى تشغيلهم، حتى لا يبقوا عالة عليها، وليجدوا مورد رزق ولو كان محدودا، ودون الضمانات الاجتماعيّة المطلوبة والحقوق النقابيّة التي يكفلها القانون. وفي هذا السياق عدّد الرئيس بورقيبة محاسن هذا المشروع، على نقائصه، ودعا إلى تغيير عقليّة التواكل والرضا بالقسمة والنصيب وبما كتب الله، معتبرا أنّ المعركة هي معركة من أجل محاربة التخلّف والبؤس والخصاصة. وفي هذا السياق العامّ عرّج بورقيبة على مسألة صيام رمضان بحضور مفتي الديار التونسيّة فضيلة الشيخ محمد العزيز جعيط (ت 1970)، ولم يتورّع بورقيبة عن نسبة الفتوى إليه كما هو بيّن في إحدى فقرات النصّ الذي نورده أسفله.

لذلك ذيّلنا المقتطف الخاص برمضان من خطاب بورقيبة بنصّ الفتوى عدد 20 المتعلّقة بـ“الأعذار المبيحة للفطر في رمضان”. وقد صنعها شيخ الإسلام بعد سبعة أيّام من الخطاب المذكور (أي يوم 13 فيفري 1960)، وقبل دخول شهر رمضان من سنة1379 هـ، يردّ بها، ولا شكّ، على الزعيم بورقيبة بلغة تقليديّة لا ننتظر غيرها من رجل زيتونيّ أملى عليه ضميره وموقعه الدينيّان أن يقول ما قال، محدثا المفارقة الجلّيّة بين تصوّراته وتصوّرات بورقيبة، وبين أسلوبين في مقاربة شؤون الدين والدنيا. لذلك نعتبر فتوى الشيخ جعيط مكمّلة لخطاب بورقيبة على ما بينهما من تناقض؛ فهما يجسّدان تاريخيّا الصراع الذي كان يخوضه بورقيبة ضدّ رجال الدين، وسعيه في آن واحد للاعتماد عليهم بصفتهم سلطة رمزيّة، بقدر ما يجسّدان الصراع الذي كان يعيشه الفقهاء بين تصوّراتهم التقليديّة وأفكار الرجل القويّ الخارج لتوّه من محاربة الاستعمار الفرنسيّ، وهي أفكار بدت لهم مجنونة: لا هم قادرون على مواجهتها وردّها ولا هم قادرون على قبولها وتبريرها.

1.مقتطف من خطاب بورقيبة

“هناك عراقيل كثيرا ما يعتبر التونسيون أنّ مرجعها إلى الدين والدين براء منها، فالدين خلو من الأوهام القديمة التي يعبر عنها بسطاء الناس: “بالمكتوب” فيقولون: “كل حدْ وقسمُهْ” و“ربّي ما يخلق نفس كان ما يخلق قسمها”.

ونحن اليوم على أبواب رمضان لا يفصلنا عنه إلاّ ثلاثة أسابيع. ومسألة صوم رمضان درستها طويلا ومن واجبي أن أبسطها هنا بكلّ صراحة بحضور مفتي الديار التونسية الذي اجتمعت به قبل اليوم وتحادثت معه مرّات متكرّرة بشأن هذا الموضوع.
إنّ التعبئة التي ندعو إليها والعمل المتواصل المتحتّم والضروريّ تعترضه عقبات يعتبرها الشعب ذات مصدر ديني، فيقول الناس: “أقبل رمضان ولا عمل فيه والأمر لا ينازع فيه منازع”، هذا هو الحدّ الذي وصل إليه الأمر … ويقولون: هل أسمى لدى المرء من دينه؟ ويرون أنّ صيام رمضان قد يؤدّي بالمرء إلى الإمساك عن كلّ عمل ولا جناح عليه. وعندما تريد أن تحاسبه عن تكاسله يتذرّع بالصوم ويتمسك برمضان.

إنّ أمّة بأكملها تسعى ما وسعها لتنمية الإنتاج القومي، وتبذل جهد طاقتها في ذلك السبيل، وبين عشية وضحاها ينهار إنتاجها ويكاد يضمحلّ تماما. وتسأل عن السبب فيجيبك بأنّه رمضان.
وتلتفت حولك فلا ترى إلا متثائبا أو مستسلما للنوم.

وهذا أمر لا يمكن أن يستمرّ لأنّه ليس من الدين في شيء.

وهذا أقوله هنا بحضور مفتي الديار التونسية الذي سيخاطبكم مباشرة في الموضوع بعد يوم أو يومين، وأكرّر القول بأنّه ليس من الدين، وإنّه إسراف في فهم الدين.

إنّ من يكون صائما وقائما بواجبه الديني حسبما يفرضه عليه الإسلام ثمّ يدرك أنّ ضعف بدنه لا يسمح له بالعمل فيستمرّ في الصوم تاركا العمل .. إنّ من يكون هذا شأنه لا يقرّه الدين عليه حسبما يراه مفتي الديار التونسية. وسيشرح لكم ذلك بنفسه.
إنّ الله جعل الدين يسرا لا عسرا، وقد خفّف على عباده جميع الفروض التي تشقّ عليهم وينالهم التعب في أدائها، والصيام أشقّ هذه الفروض على النفس لم يفرضه الإسلام باعتباره ضربا من ضروب تعذيب النفس البشرية. والتعذيب الذي تقرّه بعض الأديان لا يقرّه الإسلام ولا يعتبره موجبا للجزاء بالجنّة أو أداة للتكفير عن الذنوب.

هناك أناس يفرضون الحرمان على أنفسهم وينزعون عنهم أثوابهم ويلوذون بالفقر ويلبسون بعض أكسية صوفية ويقنعون بكسرة من خبز تسدّ رمقهم. والذين يبلغون تلك الدرجة من التصوف ويتعبدون على تلك الصورة لا يقرّهم الإسلام في ذلك.

التخلّص من الانحطاط كفرض الجهاد

إنّ ديننا دينٌ جميع فروضه قائمة على العقل والمنطق وغاياتها معروفة يتناولها التدريس.. وهي تمرين وتجربة وتطهير.

ولكن ما يتعارض منها مع ضرورة الحياة وما تقتضيه الحياة والكفاح من أجل الحياة فإنّها تسقط بطبيعتها ويصبح المسلم في حلّ منها.

فالله سبحانه وتعالى أعفى المسافر من الصوم نظرا لما كان يلاقيه من بعض الأتعاب، فكيف لا يعفيه عندما يتعلّق الأمر بشغله الذي لا عيش له بدونه. ولا يملك أن يقتات ويكسب تلك الكمية الضئيلة من الدقيق التي تكفل له قوت أطفاله إلاّ عن طريق الشغل، زد إلى ذلك أن الشغل ضرورة يفرضها السعي لخروج الأمة الإسلامية عن طور الانحطاط والتخلف، فتونس البلاد الإسلامية تعاني درجة من الانحطاط تجلب لها العار في نظر العالم، ولا سبيل لأن ترفع هذه المعرّة عن جبينها إلا بالعمل الدائب المتواصل والشغل المثمر المجدي. والتخلص من هذا الانحطاط فرض وجهاد حكمه كحكم جهاد السيف. ولذلك فإنه لا يمكن أن يعرقل جهادها أو يعطله أو يوقف انطلاقه أو يقعدها عنه فرض الصوم، فالصوم يحطّ من إمكانيات الفرد ويجعله لا يقوى على واجب هو ليس واجبا شخصيا بل واجب نحو أمّته ونحو دينه.

هذا ما يتعيّن عليكم إدراكه حقّ الإدراك دون أيّ التباس قد يركبه خصومنا الكثيرون مطيّة للتهجّم علينا وحملنا محمل الكفر والعياذ بالله. إني لا أدعو الأمّة إلى ترك الصيام، بل إنّي أقول أنّ تعبا يقعدهم عن شغل حيويّ يكسبكم قوتكم وقوت ذويكم ويوفر لكم سببا من أسباب رفع هذا الدين إلى المستوى اللائق به .. إذا خفتم أن يحول بينكم وبين هذا العمل المطلوب منكم لبلوغ هذه الأهداف السامية، فإن فضيلة الشيخ محمد العزيز جعيط يقول لكم إنّ الدين يجعلكم في حلّ من الصيام على أن تؤدوا صيام الأيام التي فطرتم فيها عند ما يتيسر لكم ذلك، يوم تحالون على التقاعد مثلا، أو عندما تكون الظروف مواتية. ليس هناك مانع ديني يمنع من ذلك.
ولكم في رسول الله أسوة حسنة.

أما اليوم فإننا نواجه تعبئة عامّة يتعيّن فيها أن يكون العمل متواصلا لا يعرقله معرقل ولا يوقف اندفاعه شيء. والخطر كل الخطر أن يتكسّر الاندفاع وأن يتعطل شهرا أو شهرين بدعوى أن صوم رمضان هو السبب.

إننا في غمرة مشاكلنا ومعاركنا السياسيّة لم نجد وقتا كافيا لدرس السيرة النبويّة بإمعان. ولقد اطلعنا عليها وعلمنا منها الكثير ولكن جوانب منها لم نهتد إليها. وقد أرشدني فضيلة الشيخ محمد العزيز جعيط في مجلس جمعنا مع فضيلة الشيخ الطاهر بن عاشور إلى حادثة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم دلتنا على رأيه واتجاهه وعلى تصرّفه لو بقي صلى الله عليه وسلّم حتّى اليوم. يقول فضيلة مفتي الديار التونسيّة إن رمضان أدرك المهاجرين والأنصار وهم يسلكون طريقهم بقيادة النّبي الكريم إلى فتح مكّة فصام بعضهم وأفطر آخرون، فأراد صلى الله عليه وسلّم أن يشجعهم فأفطر، ومع ذلك تمسك البعض منهم بالصوم فأمرهم بالإفطار وقال لهم :“أفطروا لتقووا على ملاقاة عدوّكم”. حديث شريف وسنّة نبويّة كريمة كانت مجهولة منا، والحال أنها جديرة بأن تلقى كل يوم جمعة في الجوامع والمساجد، وأن تظفر بما هي حرية به من درس وتحليل. لقد كان صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى جنود الإسلام ليقهر بهم أعداء الدين، وماذا يفيد الدين يا ترى إذا تمسكوا بالصوم ثم اندحروا أمام قريش؟[2]

إنّ جميع رجال الدين الحاضرين في هذه القاعة يعلمون أن الإسلام يحضّ على الإفطار في رمضان ليقوي المسلمون على أعدائهم. وأعداءُ المسلمين اليوم: الانحطاط والخصاصة والذل والمهانة. إن الدين يأمركم أن تقووا على أعدائكم كي لا تبقوا في مؤخرة الأمم، وإذا أردتم أن يكتب الله لكم ثوابا في الدار الآخرة فما عليكم إلاّ أن تعملوا بضع ساعات إضافية خير لكم من صوم لا عمل فيه يدفعكم إلى زيادة التقهقر.

وهذه السنة النبوية كشفت القناع عن حقائق دينية كانت مجهولة لا يتعرض لها الفقهاء خشية من بساطة الناس.

وهناك واقعة أخرى في السيرة النبوية حدثنا عنها أساتذتنا عندما كنا تلاميذ بالمدرسة الصادقية، وهي أن النبيّ صلي الله عليه وسلم التقى في طريقه برجل يتعبّد في صومعة يقضي ليله ونهاره مصليا، وقيل له أنه زاهد في الدنيا، فسأل عمن يطعمه فقيل له إنه أخوه، وكان حاضرا، فالتفت إليه رسول الله وقال له: إنك أفضل منه، لأنك تعمل من أجل إطعامك وإطعامه، أو كما قال.

الدين لا يبيح القعود عن العمل:

هذا هو ديننا الحنيف الصالح لكل زمان ومكان والمساير لجميع الظروف، والبلاد التي تدعو فيها الحاجة إلى الشغل والعمل والجهاد في منطقة معينة لا يمكن أن يقعدها الدين عن ذلك، لا سيما وهو دين يدعو إلى الجهاد، وإذا ما قال قائل إن الدين يقعد بالمسلمين عن التطور والتقدم فإنّي أردّ عليه بأنه يستحيل أن يكون الدين سببا في تأخّرنا وفي ضعفنا.
والأمر لا يدعو إلى اجتهاد كبير، بل يكفي أن نراجع كتب السيرة التي لا تترك مجالا للتردد في الإمساك عن الصوم حالما يشعر المرء بخطر يهدد بدنه أو شغله أو إنتاجه، أو ينال منه في القيام بواجبه في هذه الدنيا وفي سعيه ليحظى بعيش الكرامة وفي مساهمته لتخليص بلاده من التخلف والانحطاط.

إن الدين والحالة تلك لا يطالب بالاستمرار في الصوم، ويراه غلوا ولا غلوّ في الدين. ولكنه الجهل جعل الناس يعتقدون أمورا ما أنزل الله بها من سلطان عن حسن نية.
وقد تكونت عادات وتقاليد ارتبطت برمضان، لعلها السبب الرئيسي فيما أصابنا من انحلال عزائمنا في ذلك الشهر، فقد ألِف الناس أسماره الطويلة ومآكله الدسمة وخلاعة ملاهيه، وغير ذلك مما يأباه الدين ويجرّ إلى النكبات وفقد الثروات. وكثرة المأكل تؤدّي إلى تأزم الأمراض بل هي التي تثيرها.

كل هذا يجب أن يوضع له حدّ وأن يتوقّف السهر عند حدّ معقول، لأنه هو الذي يحول بين الرجل وبين القيام بواجبه في الغد، فتتكون عادات جديدة وتتبدل المواعيد وينخرم كل نظام وتشحب سحنات وتصفرّ وجوه، ولا يعود أيّ كان يستطيع أن يقوم بعمل منتظم مثمر، وكلٌّ يشكو رمضان وتعب الصيام. ولعل أكثر الناس شكوى من رمضان اولئك الذين يفطرون، ولكنهم يتأخرون عن مواعيد العمل أكثر من سواهم.

وعليه، فابتداء من هذا العام تقرّر منع جميع هذه التصرّفات المخلّة بالكرامة والمفسدة للأخلاق، فلا تتغير أوقات العمل في المصالح الإدارية، ولا يتجاوز السهر منتصف الليل، ولا تقام الحفلات الراقصة في المقاهي وغير ذلك من الأمور المزرية، ولنا الكفاية في أعيادنا الدينية والوطنية لنتّعظ ونعتبر، ولا داعي لتواصل عيدنا شهرا كاملا وأن يمتدّ إلى شهر قبله وشهر آخر بعده، فكفانا استهتارا بالقيم والأخلاق والدين في آن واحد. إنّنا في حاجة إلى القوّة وهذه الدولة بما عرف عنها من حزم ونكران ذات وإخلاص وحبّ للخير جديرة بأن تلقى من الشعب الامتثال والطاعة والعمل المثمر رغم العادات الماضية.

ولقد اندحرنا وتقهقرنا ودعانا داعي الجهاد المتواصل. فما ضرّنا لو تخلّصنا من جميع العادات الوبيلة وانكببنا على العمل واتخذنا لنا أفراحا معقولة واضحة المعالم مثل الأفراح الوطنية والدينية، بدون أن نتذرّع بها للاستهتار والتفسّخ أو لإثارة الخصومات والخلافات والانزلاق إلى التصارع وتبادل اللكم في سوق العصر والباب الجديد متذرّعين بأنّ ذلك هو تأثير رمضان.
يجب أن نتمسك بجادّة العقل وأن نتبيّن الهدف الذي نسعى لإدراكه، وعندها تهون علينا التضحية بالعادات والسهرات مما يعود علينا بالضرر من جميع الوجوه.
وما كل هذا إلاّ توفير لأسباب النجاح في معركة البناء والتشييد وفي التشغيل المستمر، والأمر يعود إلى التفكير وإعمال الرأي.

والعاطلون الذين نشغّلهم يجب أن يقتنعوا بأننا لا نبغي تمكينهم من الأجور فقط، بل نروم توفير ثروة البلاد والخروج من طور الانحطاط الذي يصمنا بوصمة عار باعتبارنا تونسيين وعربا ومسلمين.

وإذا ما تحقق هذا الهدف ولقينا من الشعب الحماس والامتثال والعمل والعزوف عن العادات البالية والمعتقدات الدينية الخاطئة، وإذا ما واصلنا السير جنبا إلى جنب يدا واحدة، فإننا منتصرون في معركتنا الكبرى؛ معركة بناء دولة حرّة وأمّة مسايرة لمقتضيات العصر في مقدّمة الشعوب الحيّة.

والسلام عليكم ورحمة الله ”

(المصدر:الحبيب بورقيبة :خطب، الوزارة الأولى، نشريات كتابة الدولة للإعلام، تونس 1960 – 1961)

2. فتوي الشيخ جعيط

” بسم الله الرّحمان الرّحيم والصّلاة و السّلام على أشرف المرسلين

الفتوى رقم 20: الأعذار المبيحة للفطر في رمضان

السؤال : ما هي الأعذار المبيحة للفطر في رمضان؟

الجواب: أوّل ما يلزم معرفته أنّ الله تعالى أمر المسلمين كافّة أن يقوموا بصوم أيّام هذا الشهر، أي يمسكوا عن شهوتي البطن والفرج من الفجر إلى غروب الشمس، واهتم بأمر الصوم فجعله من دعائم الإسلام، ونصّ على فرضه القرآن والسنّة وانعقد الإجماع على وجوبه، واشتهر ذلك فصار من المعلوم من الدين بالضرورة، يخرج منكِر وجوبه من حظيرة الإسلام، ويستحقّ المعتقد وجوبه المتخلّف عن أدائه لغير عذر شرعيّ عقاب الله في الدار الآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

و الأعذار الشرعية المبيحة للفطر في رمضان هي المرض والسفر بنص القرآن المبين قوله تعالى:

” وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ “البقرة 185 .

وأمّا المرض المبيح للفطر في رمضان فهو المرض الذي يتسبّب الصومُ في زيادة آلامه وتأخّر البرء منه، أمّا إذا بلغ المرض حدّا يكون الصوم معه وسيلة لهلاك النفس فإنّه يجب الفطر منه ويحرم الصوم. ويجب الصوم على الأصحّاء أصحاب الأشغال اليدوية الشّاقة المضطرين للشغل للقيام بشؤون حياتهم وحياة أهليهم. وإذا عرض لهم أثناء الشغل في نهار رمضان عطش شديد أو دوار أو إغماء أو غير ذلك من الأمور المبيحة للفطر، يباح لهم الفطر في ذلك اليوم ويقضونه في بقية الأشهر. ولا يلزم الشغّالين تركُ العمل خيفة عروض ما يفضي إلى الفطر.

وهنا أنبّه الصّائمين إلى أن ما يشعرون به من الفتور أثناء الصوم متولّد في غالب الأحوال من مواصلة لسهر الليل كلّه أو جلّه، فيصبح الصائمُ لقلّة النوم فاترا عاجزا عن القيام بعمله على الوجه الأكمل، وليس ناشئا عن الإمساك عن الطّعام والشراب بضع ساعات، إذا لم يكن الإنسان معتلا. وهذا ما يدعوني إلى التنويه بما أعلنه الرئيس الحبيب بورقيبة على تحجير فتح دور اللّهو في ليالي رمضان هذا الشهر المبارك، وعلى وجوب إغلاق الدولة المقاهي في الأوقات المعتادة في أشهر الفطر، الأمر الذي يعين على القضاء على السهر بالقضاء على أسبابه. وبذلك نحفظ للجسم صحّته وتوفّر نشاطه وتصان الأخلاق من التدهور.”

المفتي شيخ الإسلام في تونس

محمد العزيز جعيط

المصدر: جريدة الصباح 14 فيفري 1960(وقد ألقيت في الإذاعة التونسيّة قبل يوم من نشرها)

ـــــــــــــــــــــــــ

فهل كان الحبيب بورقيبة يعبر عن فهم معين للدين ولفريضةِ الصوم، وكانت تحركه حماسة خالصة للنهوض باقتصاد بلده، أم كان يؤسس وينفذ ما سماه محمد الطالبي بـ“الانسلاخسلامية”، لكنها جاءت مغلفة وملونة ومتدرجة …؟

هل كان بورقيبة يريد فقط المحافظة على الإنتاج القومي ومنعَ تضرره بالصوم، أم كان الصوم نفسه هو المستهدف؟

لقد كشف بورقيبة نفسه أن العادات السيئة التي ألصقت بالصوم وبرمضان هي السبب الحقيقي وليس مجرد الصوم. وهذا ما أكده المفتي الشيخ محمد العزيز جعيط. وبناء عليه فإن التدابير الجيدة التي أعلنها بورقيبة لمحاربة هذه العادات “الرمضانية”، كانت كافية لو طبقت بالحزم المعلن عنه. فلماذا استمر في تحرشه بالصيام ومحاولة توهينه والإغراء بتركه؟

وإذا كان بورقيبة يدعو العمال والموظفين المتعوبين المكدودين بأشغالهم إلى ترك الصوم، فلماذا دأب هو على الإفطار في رمضان والمجاهرة بذلك في قصره وتمام راحته وترفهه؟. يقول أحد أنصاره المعجبين به: “فمن المعلوم عند من كتب سيرة الرجل ومن عاشره ومن نقل بعض أسراره، أنه منالمفطرين في رمضان. وكان على ما يزعم الباحث الفرنسيّ مارتال، كاتب سيرة من سيره،يصدم وزراءه بدعوتهم إلى الغداء معه في شهر رمضان.“[3]

ثم إذا كان الغرض فعلا هو الغيرة الاقتصادية والسعي البريء إلى المحافظة على الإنتاج الوطني لمجتمع متخلف يريد النهوض والاستدراك، فلماذا لم يجد متهما سوى رمضان؟ لماذا لم يمنع — مثلا — التدخين في أوقات العمل، وهو قطعا يقع على حساب الإنتاج؟ لماذا لم يمنع التبرج الفاتن في أماكن العمل وهو بدون شك يؤثر سلبا على الإنتاج؟ بل لماذا جعل التبرج شِرعة ومنهاجا وإنجازا حضاريا له ولدولته؟ ولماذا لم يشن حملة على الظواهر السلبية الضارة — حقيقة وقطعا – بالإنتاج، من قبيل: التغيب والتأخر والغش في العمل، وهي ظواهر تكلف الإنتاج خسائر فادحة؟ مع العلم أنها ممتدة طيلة السنة، بينما الصوم لا يكون إلا في نحو عشرين يوما منها.

وإذا كان لأيام الصوم بعض التأثير السلبي على بعض الصائمين في مقدار عملهم وإنتاجهم، أليس للصوم فوائدُ نفسية وتربوية وصحية جديرة بالتقدير، وتعوض لنا ذلك النقص بأضعافه مقدارا وقيمة؟

…يُتبع


[1] — والجميع عن: موقع الأوان — بتاريخ 16 سبتمبر 2009– على أن التسطير لبعض الجمل مني (الريسوني)

[2] — من تعليقات شوقي بوعزة في هذا المقام قوله: “ومن حسن حظ التونسيّين والمسلمين، في ما يبدو، أنّه وُجد بورقيبة ليفهم مقاصد الدعوةالمحمّديّة” — من مقال له بعنوان “أفطروا لتقووا على ملاقاة عدوّكم، أو: هكذا تكلّم بورقيبة عن رمضان” — موقع منتدى العقلانيين العرب. سبتمبر 2009

[3] — من مقال شوقي بوعزة بموقع منتدى العقلانيين العرب

الجابري وقضية المصلحة

للدكتور محمد عابد الجابري مكانة متميزة ضمن التيار الحداثي التقدمي في العالم العربي. فهو يتميز بغوصه واطلاعه الواسع في كافة العلوم والمعارف التراثية. كما أنه يتميز برصانته وهدوء تحليلاته ومعالجاته. ويتميز كذلك بنزاهته وبثوابته الوطنية والقومية.

وقد عرج الجابري على قضايا الشريعة ومقاصد الشريعة في العديد من مؤلفاته ومقالاته، وتزايد ذلك بصورة مطردة في المرحلة الأخيرة من مسيرته الفكرية. إلا أن المعالجة المباشرة والأكثر وضوحا واختصاصا لهذا الموضوع، هي تلك التي جاءت في كتابه الصغير (الدين والدولة وتطبيق الشريعة). وعليه تعويلي في هذه الفقرة.

يرى الجابري أن استئناف الاجتهاد والتأصيلِ اليومَ، يجب أن يتجاوز كافة الاتجاهات والمذاهب التي أفرزها وعرفها التاريخ الإسلامي، وأن يرجع مباشرة إلى عصر الصحابة وإلى عمل الصحابة. “إن اعتماد عملِ الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين مرجعيةً أساسية — ووحيدة إن اقتض الحال — لا يعني الحكم بالخطأ أو الانحراف على جميع المرجعيات الأخرى التي شيدها أئمة مجتهدون، كانوا على درجة كبيرة من المعرفة والنزاهة والموضوعية، كلا. كل ما في الأمر هو أنه يجب النظر إلى هؤلاء المجتهدين بوصفهم رجالا شيدوا لعصورهم مرجعيات توخوا فيها أن تجيب على ما طرح في تلك العصور من مستجدات من جهة، وأن تُنَظِّم الاجتهاد وتضع له قواعد من جهة أخرى. وبما أن عصرنا نحن يختلف اختلافا كبيرا عن العصور الماضية، ويطرح من المشاكل والمستجدات ما لم يكن يخطر على بال ألئك المجتهدين الواضعين لقواعدِ وأصول إنتاج المعرفة الفقهية، فإن الحاجة تدعو إلى الرجوع إلى الأصل كما كان منفتحا وغير مقنن قبل ظهور “الخلاف” وقيامِ المذاهب والفرق، أي كما كان زمن الخلفاء الراشدين.” ص10

ويرى أن الصحابة لم يتقيدوا بشيء من القواعد والمصطلحات الأصولية التي لم تظهر إلا بعدهم، وأن “المبدأ الوحيد الذي كانوا يراعونه دوما هو المصلحة، ولا شيء غيرها. وهكذا فكثيرا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص، حتى ولو كان صريحا قطعيا، إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص.” ص12

ويوضح أن ما يدعو إليه من تجاوز للقيود المنهجية للاجتهاد، يعني التعامل معها بمرونة، والنظر إليها من زاوية النسبية ومن منظور تاريخي.

بالرجوع إلى العصر الأول، عصر التنزيل، يسجل الجابري أن الشريعة “نزلت بالتدرج والتدريج: فالتدريج لمسايرة تطور الجماعة الإسلامية ومراعاة تغير الأحوال العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية… الخ. والتدرج لمسايرة تغلغل العقيدة في النفوس ومدى تشبع الناس بها وإدراكهم لمقاصدها ووجهِ المصلحة فيها، ومن هنا الناسخُ والمنسوخ… وإذن فالأحكام الشرعية في الإسلام ينتظمها ثلاثة أركان: النسخ، وأسباب النزول، والمقاصد. هذا الارتباط الوثيق بين الأحكام الشرعية وبين الحياة وتطورها، والذي تجسمه وترسخه المعطيات الثلاثة التي ذكرنا (النسخ، وأسباب النزول، ومقاصد الشرع)، قد ظهر جليا واضحا أيضا في الدور الذي قام به الصحابة في التشريع زمن النبوة نفسها…” ص39

وهذه “الأركان الثلاثة” للتشريع الإسلامي عند الجابري، كلها تعني المصلحة وتدور معها. فالنسخ هو تغيير الحكم كلما دعت المصلحة إلى ذلك، وأسباب النزول معناه نزول الأحكام بما يناسب الوقائع والتطورات ويحقق المصلحة فيها. ومقاصد الشريعة إنما هي المصلحة عينها. ومن هنا، فإن “هذا المبدأ، مبدأ المصلحة، هو المستند الذي كان الصحابة يرتكزون عليه في تطبيقهم للشريعة” ص41. فـ“المصالح الكلية هي الأصل الوحيد الذي كان الصحابة يعتمدونه في تطبيقهم لأحكام الشرع” ص52

“وهكذا فالمصلحة يجب أن تكون حاضرة دوما في تطبيق الشريعة، ويجب أن يكون لها الاعتبار الأول” ص49

المشكلة في نظرية الجابري هذه تكمن في أن هذه المصلحة، وهذه المصلحة العامة، أو المصلحة الكلية، تظل بلا هوية، وبلا مفهوم محدد، وبلا معالم ضابطة. نعم لقد سرد الجابري مجموعة من المصالح الضرورية ومن المصالح الحاجية، يرى أنها مصالح جديدة لعصرنا وظروفنا. وهي كلها مصالح لا غبار عليها، ولكن قد يأتي غيره — من حاكم أو مفكر أو “مجتهد” — فيضع قائمة أخرى منافية ومجافية لما ذكره الجابري، ويبني عليها مذهبه أو دعوته أو دولته، ويقول للناس: أنا أراعي المصلحة الظرفية والمصلحة الكلية والمصلحة العامة والمصلحة العليا ومصلحة الوطن .… أفلا تبصرون؟

على كل فنظرية الجابري من حيث المبدأ ومن حيث الإجمال مقبولة في االمنظومة الأصولية الإسلامية، ومتوافقة خاصة مع المذهب المالكي والفكر المقاصدي الإسلامي، لكن آفتها أنها تغيب فيها — بقصد أو بغير قصد؟- المعايير المرجعية لما يعتبر مصلحة وما ليس بمصلحة، وما يعتبر مصلحة عليا وما يعتبر مصلحة دنيا، وما الذي يتغير وما الذي لا يتغير من المصالح…

وعلى سبيل المثال: فالأصوليون والفقهاء الذين أخذوا بالمصلحة المرسلة، اشترطوا فيها الاندراج في مقاصد الشرع المعلومة، وألا تصادم أحكامه، وأن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية. فماذا يشترط الجابري في هذه المصلحة التي هي قبل كل شيء وفوق كل شيء؟

الدكتور الجابري مَثَّل لنا بحد السرقة، على أساس أن “أسباب النزول” وكذا المصلحة التي استدعته وكان محققا لها حين نزوله، قد تغيرت، مما يستدعي تغيير هذا الحكم.

وقد حاولت جاهدا أن أضع يدي على المصلحة القديمة التي كان يحققها حكم السرقة، ولم تعد متحققة اليوم فلم أجد شيئا. فالحكم شرع حفظا للأموال واستقرارها، وزجرا للمعتدين عليها. وهذه المصلحة كانت تتحقق في القرن الأول، وهي تتحقق اليوم بقطع يد السارق بالتمام والكمال، ولم تزدها الأيام إلا ثبوتا ووضوحا. فهل صيانة حرمة الأموال وضمانُ الاستقرار والأمان للمستثمرين والتجار وكل ذوي الأموال المشروعة، هل هذا لم يعد مصلحة ضرورية؟ أم أن حد السرقة لم يعد محققا لها، وأن السجن والغرامة يحققانها بشكل أفضل من القطع؟

لقد رحل الدكتور الجابري رحمه الله قبل أن يقدم لنا إجاباته.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى