مقالاتمقالات فكرية

من أجل نقد بناء للحركة الإسلامية

من أجل نقد بناء للحركة الإسلامية

بقلم أحمد الريسوني 

نشر في التجديد وم 15 – 01 – 2008



قبل سنوات ، كان عدد من أبناء الحركات الإسلامية والدارسين لشؤونها ، ينتقدون افتقادها لمناخ النقد الذاتي ، ومناخ حرية التعبير عموما ، داخل صفوفها . وأتذكر أن أحد المفكرين المستقلين حكى لي أنه حضر ضيفا على مؤتمر لإحدى هذه الحركات ، وكان منعقدا بدولة أوروبية ، وأنه كان يتابع النقاشات ويشارك فيها بقدر ما يَسمح له وما يتسع له المناخُ السائد فيها . وقد تعرضت           رغم ذلك آراؤه وتدخلاته لعدة أشكال من التحفظ والضيق والتبرم … وفي آخر تدخل سُمح له به قال لأهل المؤتمر : إن النظام عندنا وهو نظام دكتاتوري – يعطينا من حرية التعبير أكثر مما عندكم في هذا المؤتمر !! ويبدو لي أن قدرا كبيرا من هذا الواقع قد تغير أو هو آخذ في التغير- في غضون العقد الأخير أو حتى قبله بقليل . وبصفة خاصة ، فقد ارتفعت نسبة النقد الذاتي وحِدَّته داخل معظم الحركات الإسلامية . وأصبحنا نجد عددا من أبناء هذه الحركات ومن قيادييها ، لا يترددون في إطلاق العنان للنقد والتجريح ، وفي مراجعة كثير من المسلمات والشعارات ، التي شب عليها الصغار وشاب عليها الكبار… ومن قائل بفشل الحركات الإسلامية وعجزها وأفولها … فمِنْ متحدث عن التضخم السرطاني لهمومها ومساراتها السياسية … ومن متحدث عن انبطاحها وذوبان كيانها واستسلام قيادييها … ومن داع إلى حل التنظيمات واللجوء إلى العمل العفوي في إطار المجتمع المدني … ومن مناد بترك العمل السياسي والانسحاب من الساحة السياسية الملغمة و المحتكرة … ليس يعنيني الآن ما في هذه المقولات وغيرها من صواب أو خطأ ، ومن إنصاف أو إجحاف ، وإنما يعنيني أن الحجْر الفكري قد بدأ يُرفع أو يرتفع ، أو انطلق في ذلك . وهذا مبدئيا  جيد وصحي . ومن المعتاد في بعض هذه الأحوال والظروف ، أن تقع تجاوزات ومبالغات ، واضطرابات فكرية وتنظيمية ، لكن ضررها يبقى أقل من ضرر خنق حرية التفكير ومحاصرة حرية التعبير وتنميط العقول، ولو باسم مصلحة الإسلام أو مصلحة الدعوة أو الجماعة … فالمصلحة الحقيقية توجد في الشفافية والصراحة وحرية النقد وحرية الفكر والتعبير عن الفكر … وغير هذا يبقى استثناء يراعى عند الضرورة ، إن وجدت هذه الضرورة وقدرت بقدرها . ما ينبغي أن يكون مرافقا وملازما لهذ الحرية الفكرية والتعبيرية ، هو الحرص على العدل والاعتدال ، وعلى الموضوعية والإنصاف . وإذا لم نجد هذه الصفات متحققة لدى الشخص الواحد ، في أحكامه وتقويماته ، فلنحققها من خلال تعدد الآراء وتوازنها ، وبضدها تتوازن الآراء . وهذا بعض ما أرمي إلى تقريره وتثبيته في هذه المقدمة ، قبل أن أعود إلى الإدلاء بدلوي في تقويم واقع الحركة الإسلامية ، وتقويم بعض التقويمات الجارية بشأنها.

الإنصاف ما الإنصاف؟

الإنصاف لغة : مأخوذ من ( النِّـصْـف ) . وأصل استعماله من الشيء يكون مشتركا على التساوي بين اثنين ، فمن أخذ نصفه بلا زيادة فقد أنصف ، ومن أعطى شريكه نصفه بلا نقصان فقد أنصف. ومن حَكمَ أو قَسَم بين شريكـين ، فأعطى كل واحد نصفه بلا زيادة ولا نقصان ، أو حكم لكل واحد بما له وما عليه ، فقد أنصف . ثم اتسع استعمال اللفظ ومشتقاته ، للدلالة على التسَّوِية بين الناس، فيما لهم وما عليهم ، سواء كان النصفَ أو غيرَه مما هو مستحق ، وسواء كان ذلك في الأشياء ، أو في الأفعال ، أو في الأقوال . وأما الإنصاف بمعناه العلمي والخُلقي ـ وهوالمقصود الآن ـ فالمراد به إعطاء الناس ما يستحقونه كاملا ، بلا بخس ولا تحيز ولا محاباة . وقد يكون ذلك بالأقوال ، وقد يكون بالأفعال ، أو بهما معا في آن واحد . ولا شك أن هذا المفهوم يتشابه ـ ويكاد يتطابق ـ مع مفهوم العدل. ولذلك قال بعض العلماء : العدل والإنصاف توأمان . وعلى الرغم من كون العدل والإنصاف من معدن واحد ، فالظاهر أن بينهما عموما وخصوصا في الاستعمال . فالعدل يستعمل في مواطن التنازع والتخاصم ، ويكون ممن له صلاحية الحكم والتصرف في الأمر. وأما الإنصاف فأعم من هذا وأوسع ، حتى إن العلماء يتحدثون عن إنصاف العبد مع ربه ، وعن إنصافـه مع نفسه ، وعن إنصاف غيره من نفسه ، وعن الإنصاف بين الناس . كما أن استعمال الإنصاف دخل كثيرا في المسائل والخلافات العلمية والفكرية ، كما سنرى قريبا . ولعل الإنصاف يكون أخص من العدل ، من حيث يجري استعماله خاصة في مواطن تكون عادة مَظِنَّةً والتحامل أوالانحياز . فالفعل أو القول يوصف بالإنصاف ، إذا وقع حيث كان يُخشى أو يفترض عدمه ، كأن يعطي الإنسان الحق لغيره على حساب نفسه ، أوينصف البعيد على القريب ، أو ينصف المخالف على الموافق . بينما العدل يكون في هذه الأحوال وفي غيرها . ولعل هذا ما عناه الراغب الإصفهاني بقوله : والإنصاف من العدل .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى