أبحاثأبحاث مقاصدية

مقاصد الشريعة .. أعز ما يطلب

(مقاصد الشريعة .. أعز ما يطلب)

 مداخلة الدكتور أحمد الريسوني

ضمن ندوة (مسارات النهضة والفقه الاستراتيجي)

بقاعة المؤتمرات بالأزهر – القاهرة في 10/9/2012

============

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أما بعد :

مقاصد الشريعة في نظري هي أعز ما يطلب – أعز ما يطلب هذه عبارة معروفة، وهي عنوان كتاب للمهدي بن تومرت في المغرب، ولكني دائما أقتبسها. في الشريعة في الدراسات الشرعية بفقهها وأصولها ، فإن مقاصد الشريعة هي أعز ما يطلب ، وقد تحدث العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في بداية كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية عن علم أصول الفقه، وأنه لم يعد وافيا تماما بمتطلبات واحتياجات المتفقهين والمجتهدين، لما غزاه من خلافات وتفريعات. ولذلك دعا إلى طلب ما هو أسمى وأعلى، وهو: مقاصد الشريعة. فلذلك قلت أيضا إن مقاصد الشريعة هي أعز ما يطلب، لأنها أعلى مرتبةً وأبعدُ غورا حتى من علم أصول الفقه الذي غلبت عليه المباحث التفصيلية والجزئية واللغوية والخلافات الذهنية ، فأصبح علم أصول الفقه هو نفسه مصدر خلافات كثيرة ، لأنه إذا كانت القواعد الأصولية والمباحث الأصولية هي نفسها التي يراد من خلالها أن نتوحد في النتيجة والاستنباط، فكيف إذا كانت هي نفسها محل خلافات شديدة ؟ ، والحق يقال وأنا من أكثر الناس تعظيما لعلم أصول الفقه باعتباره علما لا مثيل له عند الأمم وباعتباره العلم الذي صاغ وعبر عن العبقرية الإسلامية عبقرية الثقافة الإسلامية ومنهجيتها ومع ذلك -حبا له وغيرة عليه -أقول إن كثرة الخلافات وولع الأصوليين بالخلافات أضعف هذا العلم وأفقده جزءا أساسيا من وظيفته أو من وظائفه وهي وظيفة الوحدة .. الوحدة الفكرية والوحدة الفقهية ووحدة المنهج. فلذلك ابن عاشور رحمه الله دعا إلى إحداث شيء جديد وعلم جديد ، وهو أول من استعمل عبارة علم جديد وهو علم المقاصد؛ وقال هذا العلم نصب فيه ونجمع فيه قطعيات الدين وكلياته باعتبار غلبة الجزئيات على علم أصول  الفقه، وقد كان هو الجدير بأن يكون موطن هذه الكليات ومعدنها، فإذا به شيئا فشيئا أصبح غارقا في الجزئيات والخلافات والنزاعات والمذهبيات أيضا الكلامية والفقهية ، فهذا كله على هامش قولي إن مقاصد الشريعة هي أعز ما يطلب على الأقل الآن في هذه المرحلة .

مقاصد الشريعة هي أعز ما يطلب أيضا بالمعنى الذي أشار إليه وتحفظ عليه أستاذنا الجليل وهو أن المقاصد- فعلا- هي روح الشريعة ، لكن لا نقول ولا يمكن أن يقول عاقل إن شيئا ذا روح نأخذ روحه ونترك الباقي، لأن أخذ الروح معناه النهاية ، فإذن الشريعة أحكام وروحها مقاصدها ، ولا فكاك ولا شريعة إلا بأحكامها وحِكمها؛ بأحكامها ومقاصدها ، أنا دائما أقتبس عبارة الشاطبي حين قال : والمقاصد أرواح الأعمال . فأقول على منوالها والمقاصد أرواح الأحكام ، هو يقصد أفعال المكلفين روحها القصد ، والمقاصد – أي مقاصد المكلفين- هي روح أعمالهم ، فإذا خلت أعمالهم وأفعالهم وتصرفاتهم وأقوالهم من القصد فقدت روحها وفقدت قيمتها وربما اختلفت حتى أحكامها ، فكذلك نقول : المقاصد أرواح الأحكام ، فمقاصد الشريعة هي روح الشريعة فعلا ، ولكن بطبيعة الحال لا يمكن الفكاك بين الشيء وروحه ، بين الشريعة وروحها ، بين الأحكام وروحها .

مقاصد الشريعة إذن بهذه التسمية إنما هي ما قصده الشرع ، وعلى هذا الأساس إذا كان ما قصده الشرع من أحكامه جملة وتفصيلا بصفة كلية وجزئية، فهذا لا يمكن لأحد أن يزهد فيه ولا أن ينتقصه ولا أن يستغني عنه، سواء كان مكلفا أو فقيها أو مجتهدا، أو كيفما كان ،لأننا إذا زهدنا في مقصود الشارع ولم ندرسه ولم نبحث عنه ولم نتحره تحرِّيَنا للأحكام نفسها، فمعناه أننا أفسدنا الشريعة وأعرضنا عن حقيقتها وجوهرها وروحها، لأنه إذا كانت الشريعة جملة وكانت الأحكام كل حكم على حدة يقصد كذا ويريد كذا ويرمي إلى كذا إذا أزحنا كل هذه الأمور أو غفلنا عنها أو لم نعملها، فإنما نخبط خبطا، ونؤول إلى نوع من الظاهرية. وقد أجمعت الأمة بمذاهبها المعتبرة والمعتمدة على نبذ هذا المذهب وتبديعه وقال الشاطبي وغيره : إن الظاهرية بدعة ظهرت في المائة الثالثة . ومما يؤكد بدعيتها وعدم قبولها لدى الأمة أنها لم تتراوح ولم تتجاوز أشخاصا معينين ولحظات تاريخية ونقطا جغرافية محددة. فاختيار الأمة بسوادها وأئمتها، أو كما قال الشاطبي : المنهج الذي أمّه الراسخون في العلم هو منهج معرفة المقاصد والإحاطة بها والعناية بها ووضعها موضع الاعتبار، واستنباط الأحكام وبناؤها وتوسيعها والقياس عليها ، إذن مقاصد الشريعة داخلة في كل شيء.

 وهنا أصل إلى نقطة أخرى في هذه النقط السريعة التي أعرضها وهي نقطة المقاصد والاجتهاد وربما هي الأكثر أهمية وهي التي ركز عليها في توجيهاته فضيلة أستاذنا.

 المقاصد والاجتهاد بناء على كل ما قدمته فلا اجتهاد ولا صحة لاجتهاد ولا سداد لاجتهاد إذا لم تكن مقاصد الشريعة حاضرة ماثلة معتبرة في كل ما يستنبطه الفقيه وفي كل ما يقرره، ناظرا بدون انقطاع لا يزيح نظره وعقله عن مقاصد الشريعة في جملتها وتفصيلها. وهذا ما يقوله الشاطبي رحمه الله : إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها – وهذا لا يكفي- ، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها .

الأصوليون يذكرون علوما عديدة للمجتهد في شروط المجتهد أو شرائط المجتهد لكن هذه العلوم ما لم توصل صاحبها إلى أن يتمكن من فهم مقاصد الشريعة على كمالها فهو عالم، حافظ ، وعاء علم كما يقال، لكنه لا يؤهل إلى مرتبة الاجتهاد، ما لم يصل إلى فهم مقاصد الشريعة على كمالها ، مع التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها ، بمعنى: لا يكون أيضا حتى في علمه بمقاصد الشريعة المجردة حافظا ، مستوعبا ، قارئا ، ملما، تسأله عن كل كلمة قيلت في مقاصدها يقول قالها فلان في الكتاب الفلاني ويسرد لك كل ما قيل في تعليلات الأحكام ومقاصد الشريعة ، ثم لا يحسن تفعيل ذلك وتنزيله فيما هو بصدده من فتاوى واجتهادات واستنباطات ، إذا لم يكن قادرا على هذا التفعيل وهذا التنزيل وهذا التصريف المناسب لمقاصد الشريعة،  فهو أيضا لمّا يصل إلى مرتبة المجتهدين وليس من أهل الاجتهاد .

جاء ابن عاشور كذلك فتحدث عن هذا الموضوع – موضوع المجتهد والاجتهاد ومقاصد الشريعة – في أوائل كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ، فحصر أولا ما سماه بمناحي الاجتهاد –مناحي الاجتهاد أي الوجوه الذي يشتغل فيها ويتردد فيها اجتهاد المجتهدين – فحصرها في خمسة أنحاء هي:

 المنحى الأول : الاجتهاد في فهم النصوص – النصوص من حيث هي نصوص لغوية عربية سواء كانت نصوصا قرآنية أو نصوصا حديثية أو نصوصا للصحابة تحكي سننا عملية – هذه النصوص فهمها بمقتضى قواعد اللغة ، بمقتضى علوم اللغة ، هذا أول اجتهاد المجتهدين .

المنحى الثاني : هو النظر في التعارضات الظاهرة التي قد تلوح بين أحكام الشريعة ونصوصها ، هذا أيضا نوع من الاجتهاد لرفعه،لأن الفقيه وكل مسلم يؤمن بالضرورة أن لا تعارض في نصوص الشرع، ويستحيل التعارض الحقيقي في الشريعة وأحكامها ، لكن التعارضات الظاهرية العائدة إلى الفهم، وكذلك التعارضات التطبيقية والتعارضات التنفيذية هذه واردة ، كيف يرفعها الفقيه؟ هذا نوع من أنواع الاجتهاد أيضا .

النوع الثالث من أنواع الاجتهاد: هو قياس ما ليس فيه نص على نظيره المنصوص عليه وهذا هو معروف، إذن هو القياس وهو باب  القياس .

 النوع الرابع أو المجال الرابع من مجالات الاجتهاد : هو الاجتهاد فيما ليس فيه نص وليس له نظير ، ما ليس فيه نص وله نظير هذا بابه القياس ،لكن هناك ما ليس فيه نص وليس له نظير يصلح للقياس عليه ، إذن هنا لا بد أن يجتهد المجتهد ، سواء بالمصالح أو غيرها من قواعد الشريعة .

النوع الخامس من أنواع الاجتهاد : تعليل ما لم يعلله السابقون أو اختلفوا في تعليله، أو في تعليلهم نظر، هذا أيضا ضرب من ضروب الاجتهاد ، إذا كان مما اعتبروه تعبديا ولم نصل فيه نحن أيضا إلى تعليل مقبول، نحتفظ به باعتباره حكما تعبديا نقف عنده على ما هو عليه .

بعد ذلك قال ابن عاشور- وهذا هو الذي يعنيني – قال : والمجتهد بحاجة إلى مقاصد الشريعة ولا يستغني عنها في أي من هذه الأنحاء الخمسة ، فهو إذا فسر النص يحتاج إلى مقاصد ، إذا نظر في التعارضات يحتاج إلى المقاصد ، إذا نظر في القياس يحتاج إلى المقاصد ، وبالمناسبة فإن لابن تيمية ولابن القيم كلاما طويلا في أن القياس لا يستغني أبدا عن المقاصد وأن القياس في غيبة المقاصد إنما يؤدي إلى الزلل والضلال في الدين وفي أحكامه ، لا نتصور أن القياس قائم بذاته مستغنٍ عن المقاصد بحيث يكفي أن تشبه هذا بهذا، لا القياس أيضا وهذا ما يقوله أيضا ابن عاشور : لا يستغني عن المقاصد .. لأن القياس بدون مقاصد هو نوع من الظاهرية أيضا ونوع من الحَرفية، وهو الذي ألجأ الفقهاء مرارا أن يقولوا وهذا على خلاف القياس لأنهم لو نظروا إلى المقاصد لقالوا وهذا على وفق القياس ولا شيء في الشريعة على خلاف القياس كما قرر ابن تيمية. إنما هذا أيضا من الغفلة عن المقاصد واستعمال القياس استعمالا شكليا صوريا ظاهريا، فيؤدي- كما يقولون هم أنفسهم -إلى شناعات. ولذلك لجأوا أيضا إلى استحسان الهروب من شناعات القياس، وكانوا في غنى عن ذلك لو كان القياس ينزل ويستعمل باستحضار المقاصد ، وفي ضوء المقاصد وتحت حكم المقاصد ورقابتها .

 بعد ذلك يأتي الاجتهاد فيما لا نص فيه ولا نظير له ، وتعليل الأحكام ، فهذه كلها لا يستغني وجه منها عن المقاصد .. بمعنى كأنه فسر ما قاله الشاطبي ، لا يوجد وجه من وجوه الاجتهاد ولا مجال من مجالاته إلا وهو بحاجة إلى استحضار المقاصد والبحث عنها وتحكيمها وإدخالها ، ولذلك قال في موضع آخر :النصوص اللغوية في الشريعة لا تغني أبدا عن مقاصدها . لا يمكن أن يأتي الإنسان ويتعامل مع الخطاب الشرعي تعاملا لفظيا ليس إلا .لأن هذه هي عين الظاهرية .

بقي أن أقول فيما طلب مني أن أتناوله تحت اسم المحددات، أن أقول شيئا قاله أستاذنا الدكتور محمد عبد الفضيل وأقوله أيضا بعبارات تؤكد وتوطد ما ذكره ،

محددات المقاصد من أين تعرف وكيف تتحدد ؟ أقول : نحن نتحدث عن مقاصد الشريعة ، والشريعة هي نصوص الكتاب والسنة لاغير ، فإذن مقاصد الشريعة ليست إلا ما يؤخذ من نصوص الشريعة ، ليس لمقاصد الشريعة أي مصدر سوى نصوص  الشريعة ، وأنا أقول هذا الكلام أيضا توضيحا وتأييدا لما ذكره أستاذنا وهو أن كثيرا من الناس اليوم يتحدثون بما يهوون ويتحدثون بما يتمنون ويقولون هذه مقاصد الشريعة وهذا قصد الشارع وهذا موافق لمقاصد الشريعة وهذا مخالف لمقاصد الشريعة، حتى إنه شاع في بعض الاستعمالات وسمعت هذا وقرأته وكنت دائما أرد عليه إن العلماء منهم نصوصيون ومنهم مقاصديون، حتى وجدت بعضهم يخاطبني ويصنفني أنني مقاصدي ولست نصوصيا ، وأنا أقول لا مقاصديَ من لم يكن نصوصيا ؛ من ليس نصوصيا فلا علاقة له بالمقاصد ، بل أقول إن كل من يتحدث في المقاصد في غيبة النصوص إنما يتحدث عن مقاصد نفسه وعما يشتهيه ويريده. وهذا موجود فعلا في أناس مفكرين وكتاب لهم ثقافة أيا كان مصدرها أو نوعها وتخصصها / لهم ثقافة ولهم فكر ولهم رؤى ولهم اجتهادات ولهم ولهم… فهذه يلبسونها لباس المقاصد وينسبونها إلى  المقاصد هذه مقاصدهم فعلا ، فإذن أنا أقول إن المقاصدي نصوصي أكثر من النصوصي الذي لا ينظر في المقاصد ، لأنه يمكن أن نقول – كما يظن كثيرون- إن الظاهرية أكثرالناس نصوصية ، ولكني أعدهم هم أقل الناس نصوصية؛ لأنهم أخذوا من النصوص ظواهرها، والعلماء الراسخون الذين أمّوا المقاصد والحكم إنما نظروا في النص ظاهرا وباطنا وكليا وجزئيا وهو بنفسه ومع غيره من النصوص ، لا يصدر العالم كلمة في مقاصد الشريعة إلا بعد أن يكون قد نظر في عشرات النصوص وجمع هذا إلى هذا وقلبها من جميع نواحيها ، أما الظاهري فيكفي أن ينظر إلى الحروف وإلى الظواهر وإلى حرفيتها، فهو أقل اعتمادا على النصوص لأنه اعتمد على جانب من النصوص – هو جانب معتبر حتى لا يفهم خلاف ذلك ، الظاهر معتبر لكن ليس وحده معتبرا ، الظاهر معتبر وهو أول شيء ننظر فيه ونأخذ فيه، لكن لا نقف عنده ـ فإذا كنا نأخذ النصوص بظاهرها وباطنها وإفرادها واجتماعها فهذا هو الأخذ الحقيقي بالنصوص ، هذا هو الأخذ بالنصوص إلى أبعد مدى ، فإذن لا توجد مقاصد بغير نصوص ، كل شيء استمد من غير النصوص فعلى ذمة صاحبه ومن مقاصد صاحبه، أصاب أو أخطأ. على كل حال ، لكن لا ينسب للشريعة إلا ما خرج من نصوصها.

الأمر الآخر في هذه المحددات وفي نفس الوقت هو جواب على المحاذير الآتي ذكرها ، وهو إذا كانت مسألة التخصص في العلوم مسلمة وضرورية ، إذا كان الفقه لا يقبل إلا من أصحابه والمتخصصين فيه، والحديث كذلك واللغة وسائر العلوم بلا استثناء ، فالمقاصد تحتاج إلى تخصص في تخصص إلى أعلى درجات التخصص ، فإذن من ضماناتنا ومحدداتنا أن تصدر المقاصد عن أهلها ، نعم إن لم يكن متخصصا، وكان مفكرا / كاتبا ، قانونيا ، دستوريا ، اقتصاديا ، يأخذ المقاصد من أهل الاختصاص ثم يبني ويحلل ويستنتج ويُعملها في مجاله وينزلها في تخصصه ويستفيد منها في ميدانه، هذا نعم،  لكن تقرير أن هذا مقصد مما لم يقرره العلماء الراسخون فهذا أيضا محل تحفظ ، إذن فهذه ضمانة لا مفر منها في جميع العلوم فكيف بالدين ؟ انظروا عمن تأخذون دينكم ، هذا دين قد يتساهل الإنسان في غيره أما في الدين لا بد من الثقة العلمية والأمانة العلمية أن تتقرر المقاصد على ألسنة كبار العلماء الموثوقين في علمهم ودينهم ، وبعد ذلك يجتهد غيرهم في إعمالها وتفصيلها وتحليلها والتعليق عليها إلى آخره . فإذن لا تؤخذ المقاصد إلا من أهل الاختصاص بل من الراسخين في أهل الاختصاص ، ولا تنسوا ..أقول هذا لأن الكلمة معروفة ما قال الشاطبي حين ذكر هذا وهو يتحدث عن كتابه الموافقات قال : ولا يحل للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريان من علوم الشريعة أصولها وفروعها منقولها ومعقولها غير مخلد إلى التعصب للمذهب . نعم هذه كلمته.

هذه شروط الشاطبي ليقرأ كتابه قراءة جديرة مفيدة، يستطيع كل واحد أن يقرأ الشاطبي لا نمنع أحدا الموافقات الآن في كل الأيدي ، لكن مؤلفه يقول لا يصح للناظر النظر في هذا الكتاب نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريان من علوم الشريعة أصولها وفروعها ، منقولها ومعقولها ، غير مخلد إلى التعصب للمذهب . أو كما قال، تقريبا هذا كلامه حرفيا . فمعنى هذا أن يكون الإنسان ريان في هذه العلوم ثم يقرأ الموافقات ويزيد عليها فهذا هو الذي إذا قرر أن هذا مقصد واستدل عليه بما ينبغي هذا يؤخذ منه ، وإلا كل واحد حتى في هذا الحالة يؤخذ منه ويرد ويناقش وكل واحد يصيب ويخطيء .

بعد ذلك أيضا من هذه الضمانات في مآخذ المقاصد حتى للعلماء لا يكفي أن يكون عالما حتى يقول هذه مقاصد مقاصد مقاصد؛ لا؛ المقاصد لها قواعد؛ لا تؤخذ المقاصد ولا تقرر ولا تستنبط إلا وفق القواعد ، قواعد الاستنباط بصفة عامة، ولكن منها مسألة التعليل بصفة خاصة ، منها المبحث الذي افتتحه الشاطبي وأكمله بعض المعاصرين ولا زال البحث فيه جاريا وهو طرق الكشف عن مقاصد الشريعة ، إذن الكشف عن مقاصد الشريعة له مسالك تشترك فيها  المقاصد مع مسائل أخرى فقهية وأصولية ، أي طرق الاستنباط وقواعد الاستنباط بصفة عامة ، وهناك مسالك التعليل التي أبرزها الأصوليون ، واعتبرها مصطفى العلامة مصطفى عبد الرازق وتلميذه علي سامي النشار من إبداعات المسلمين ومن إبداعات الفكر الأصولي ، من الإبداعات العلمية النوعية في تاريخ العلوم البشرية ، لكونها مسالك علمية تصلح في جميع العلوم ، هذه المسالك هي أيضا معتمدة لتعليل الأحكام وبيان مقاصدها وحكمها لا بد أن تكون معتمدة. ثم أضاف إليها الشاطبي ما أضاف، وما زال البحث جاريا ، وقد ألفت حتى رسائل وكتب في طرق إثبات مقاصد الشريعة.

 وفي (معلمة القواعد) التي كان لي شرف العمل فيها لعدة سنوات كتبنا قسما عن قواعد المقاصد ، حوالي مائة وأربعين قاعدة لمعرفة المقاصد وتحديدها وضبطها .


فإذن المقاصد تعرف بالنصوص ومنها ، تعرف بعلمائها، لكن مع هذا كله تعرف بقواعدها ومسالكها.

أما المحاذير التي لا بد من الإشارة إليها ، فقد ورد جوابها ضمنيا في كل ما سبق ، فهناك فعلا كما ذكر فضيلة الأستاذ القوصي فعلا من يريدون تعطيل النصوص بالمقاصد هذا موجود ، لكن طبعا ليس كل من يتحدثون في المقاصد لهم هذا النزوع .. هناك في هذا الاتجاه مفكرون حداثيون، مفكرون غير متخصصين، فعلا نجد هذه النزعة يعني المقاصد بديلا عن الشرع والوحي ، عندنا في المغرب من يقولون: نحن نتبع إسلام المقاصد ولا نتبع إسلام النصوص، وهذا هو الباطل بعينه، لأن المقاصد إنما تخرج من النصوص والمقاصد تتحقق بأكمل صورها بتطبيق النصوص والتزامها .

كذلك من المحاذير التي تنتقد على من يتحدثون في المقاصد الإفراط في الاعتماد على المصلحة والذهاب أحيانا إلى حد معارضة النص الصحيح الصريح بها. لا نحتاج أن نتحدث عن الطوفي، لكن الإشارة الآن إلى من سماهم العلامة القرضاوي الطوفية الجدد وهم أكثر تطرفا من الطوفي رحمه الله ، فإذن النصوص لا تعارض المقاصد والمقاصد لا تعارض النصوص لأن معارضة النصوص بالمقاصد والمصالح ثم تجاوزها لفائدة ما يعتبر مصالح إنما هو ضرب للنصوص بعضها ببعض، لأن المقاصد إذا أخذت من النصوص فهي شرع وإذا أخذت من النصوص فهي نصوص فهي دلالات النصوص وبنات النصوص ، فإذن محاولة تصور… مجرد محاولة تصور أن المصلحة تعارض النص، هذا من قبيل ضرب النصوص بعضها ببعض وضرب الشريعة بعضها ببعض ، وأما المنهج السديد فهو أن تحفظ المقاصد وتحفظ النصوص معا ، أن تحفظ المصلحة إذا كانت مصلحة شرعية معتبرة في الشرع لا بد أن تحفظ لا يمكن أن نضيع مصلحة بدعوى كذا أو كذا ، لكن لا يمكن هذا أبدا أن يكون على حساب نص من النصوص لأن لكل نص مصلحته ، والعجيب أن الطوفي الذي افتتح هذه النظرية على ما عليها هو نفسه يؤكد أن النصوص كلها مصالح، فإذن كيف نأتي ونقول المصلحة إذا عارضت النص عملنا بالمصلحة وما إلى ذلك ، نحن في الشرع كما نقول لا تعارض – أي التعارض الحقيقي – بين آية وآية ولا تعارض بين حديث وآية ولا آية وحديث ، فكذلك نقول لا تعارض بين مصلحة حقيقية ونص صحيح ، يقولون: المصلحة في النهاية هي المقصد وهي الغرض من الشرع، فلا ينبغي أن يحول دونها النص، فلنترك النص إذا عارضها، وهذه غفلة أيضا كيف يخلو النص من مصلحة إذا أنت عرفت مصلحة النص فهذه مصلحة أخرى فهذا هو كل ما في الأمر. وحينئذ تعالوا نجمع ونوفق بين المصالح.

كذلك من المحاذير : كثرة الاعتماد على الكليات مع إهدار الجزئيات؛ هذا قد نجده عند بعض الباحثين حتى في الفقه وهذا ربما يكون نوعا من رد الفعل على من أفرطوا أيضا في الاحتكام إلى الجزئيات دون نظر إلى الكليات ، فتجد المفرطين في الجزئيات إذا عرض لهم أمر ذهبوا يبحثون عن الآثار الصحيحة والحسنة والضعيفة والمنسوخة والمؤولة والأقيسة المهزوزة وكل شيء يتعلق به دون أن يرجعوا إلى كليات الشريعة ومصالحها وضرورياتها الخمس وإلى أحكامها العامة وقواعدها الكلية، لا يلتفتون إلى هذا، وكأن هذا ليس من الشرع وكأنها مجرد زينة زائدة أو كذا أو كذا ، لا بد للباحث عن جزئيات الأحكام من استحضار كليات الشريعة ، والعكس أيضا، وهو مقصودنا الآن. بعض المفكرين خاصة وبعض الفقهاء من غير الراسخين يلجأون أولا وأخيرا إلى الكليات؛ تسأله عن شيء فيقول هذا عدل إذن يمضي ، هذا ظلم أوقفوه … هذا عدل أو ظلم، المسألة فيها تفاصيل ، ماهي تفاصيل العدل والظلم ، ماهي تفاصيل المصلحة الاقتصادية ، المصلحة التنموية ، المصلحة كذا ، كرامة الإنسان، حقوق الإنسان… ما هي تفاصيلها وحقيقتها وحالها ومآلها إذن الأمور لا تقف عند العمومات والكليات .. الاحتكام إلى الكليات قد يصبح نوعا كما يقال هو الاحتكام إلى الشعارات ، إذا احتكمنا إلى الكليات فيجب ترسيخها وتثبيتها وتدعيمها بجزئيات الشريعة التي تجسد المصلحة المتوازنة .. إذا قلنا من كليات الشريعة العدل فيجب أن نفهم العدل في الشريعة أيضا ، له معايير وله مقدمات وله تقديم وتأخير وله وجوه في التحقق ، تقدير هذا الحكم أنه لا يحقق العدل، لكن قد يكون فيه وجه أو وجوه من العدل لم ننتبه إليها ، فإذن لا بد – وهذا أمر أبدع فيه الشاطبي أيضا – من الجمع بين الكليات والجزئيات، الشاطبي في بداية كتاب الأحكام من الموافقات قال كلاما ليس عندي إلا أن أحيل عليه .

على كل حال فالتطفل على العلوم والتطاول عليها وعلى أهلها وقواعدها هذا موجود في كل شيء ، ما علاجه ؟ علاجه أن يملأ أهل الاختصاص اختصاصهم وأن يحمل أهل الرسالة رسالتهم ويملؤوا الفراغ، وحينئذ يرجع المتطفلون إلى حجمهم وإلى مقامهم ومواقعهم ، فإذن هذه المحاذير كلها بدلَ أن تدفعنا إلى أن نعلن نوعا من التحفظ أو الحجر على المقاصد، يجب أن تدفعنا إلى أن نعتني  العناية الكافية بالمقاصد، وأن تكون كما ينبغي أن تكون، فيكون أهلها يتقدمون صفوف الاجتهاد والتنظير والتوجيه.

 أقول قولي هذا وأستغفر الله والحمد لله رب العالمين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المناقشة:

د. أحمد الريسوني أجوبة

بسم الله الرحمن الرحيم طبعا لضيق الوقت وطول المجلس لا بد من الإختصار.

 وردت بعض الأسئلة المتعلقة بالعالم والفقيه وورد في كلام الدكتورة هبة فكرة جيدة جدا وهي ضرورة أن يكون كل ذي تخصص ملما شيئا ما ببقية العلوم أو بتخصصات أخرى ، هذا ذكرني بتعريف العالِم ، يعرفون العالم بأنه الذي يعرف شيئا عن كل شيء ويعرف كل شيء عن شيء، هذا هو العالم الذي يعرف شيئا عن كل شيء ، كل شيء يعرف منه نبذة، لكنه يعرف كل شيء عن شيء وهو تخصصه، فهذا تعريف يؤكد أن العالم ليس هو الذي أتقن شيئا واحدا دون غيره دون أن يكون له أي إلمام بغيره، هذا يقع حتى وهو يمارس تخصصه لأنه كان متوقفا على بعض الأمور الأخرى من علوم أخرى، متوقف على نظرة عامة، ثقافة عامة لذلك التعريف يؤكد الحاجة إلى أن كل متعلم لا بد أن يأخذ نبذة هنا وهناك ويتخصص بعد ذلك ويتقن تخصصه بدرجة كافية أو كبيرة. .

هذا أيضا يأخذنا إلى السؤال أو الإشكال الذي طرحه الدكتور وصفي عاشور وهو العالم الرباني، وهل ما زال ممكنا؟ وإذا كنا حتى في فهم النص والجانب  البياني والفقهي نجد متطلبات كبيرة جدا فكيف نصنع العالم الرباني؟ أولا أنا تجربتي وبقراءاتي في سيَر العلماء فإن هذا العالم الرباني الذي أتحدث عنه أقصد به ما قصده المفسرون وهو واضح عندهم، وهو الذي يخالط الناس ويعرف واقعهم ويعيشه معهم، هذا هو العالم الرباني، لكونه يتصف بشيء من صفة الرب اللطيف الرحيم الذي يَرُبُّ العباد.

سلطة العلماء هل هي سلطة كهنوتية ؟ لا أبدا والسؤال مهم حتى يرتفع الإشكال الذي قد يوحي به كلامي وإلحاحي على هذه القضية ، أولا : العالم لا يلزم كلامه لمجرد كونه عالما أو عالم دين ..بل كلامه لا يلزم الناس إلا بقدر حجته ودليله وقوة إقناعه هو قوته. إقناعه وحجته بمعنى ليس عندنا واحد يقول أنا عالم فاسمعوا لي بل ولذلك أجمع العلماء على أن الفتوى غير ملزمة ، الفتوى غير ملزمة إلا لمن اعتبر أن هذا كلام صحيح وأدلة مقنعة وإلى آخره ، فالفتوى غير ملزمة بمجرد أنها فتوى مفت.

 الذي يلزم هو الحكم القضائي وحكم الدولة وحكم ولي الأمر، إذا كان أيضا بطرقه المشروعة ولم يخرج خروجا سافرا عن الدين ..

الشيء الثالث هو اختلاف العلماء،  وقديما قرر العلماء أنفسهم أن اختلاف العلماء رحمة ويقصدون بهذا حتى لا يستبد أحد علينا لا بفكره ولا بمزاجه ولا بمنصبه العلمي، لأن العلماء ليسوا مبرئين من المزاج والزلل، هذه مسألة يجب أن تكون واضحة ، العلماء لهم نظر وقواعد اجتهادية  وإلى آخره ، لكن العالم لا يتجرد من مزاجه وذاتيته

متى يكون الكهنوت ؟ إذا كان شخص واحد – أو أكثر من واحد – له الكلمة النهائية ولا معقب لحكمه ولا راد لقوله. ولذلك لا مجال لأي كهنوتية أو بابوية في الإسلام أو تسلط ديني إلا مع الجهل والغفلة. فحتى المجامع، قلما تجد لها قرارا أو فتوى دون مخالف ولا متحفظ. مع إجماعها نفسه ليس هو الإجماع الملزم، ولو أن له وزنا واعتبارا أكثر مما للاجتهاد الفردي والرأي الفردي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى