أصحاب و تلامذة الأستاذ الريسوني

مستقبل الإسلام والمسلمين بعد انجلاء وباء كورونا – آراء وتصورات –

مستقبل الإسلام والمسلمين بعد انجلاء وباء كورونا
– آراء وتصورات –

معاذ زحل
باكالوريا علوم تجريبية
مع شهادة سنة جامعية في الفيزياء كيمياء
الاجازة في الشريعة بالمدينة المنورة
خريج دار الحديث الحسنية
باحث في الدكتوراه في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء
أستاذ التعليم الثانوي
خطيب جمعة بالدار البيضاء
عضو في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

نص المقال:

لا يخفى على أحد ما خلفته جائحة كورونا من آثار سيئة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية للبشرية جمعاء، شعوبا وحكومات ، بل حتى الدول العظمى والمتقدمة لم تسلم من آثارها، ومخلفاتها ، حيث شكلت لها صدمة قوية ،كشفت عن عجزها في اتخاذ الإجراءات والتدابير الوقائية اللازمة للحد من انتشار هذا الوباء، ومجابهته. كما أبانت عن النقص الكبير لدى معظم الدول في التجهيزات الصحية ،والوسائل الطبية اللازمة لإنعاش المرضى والمصابين، وحماية الأطر الصحية من العدوى ، وأخص بالذكر دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، اللائي عرفن أكبر نسبة من الإصابات والوفيات .
وقد لجأت معظم الدول التي أصيبت بالوباء إلى فرض نظام الحجر الصحي على المواطنين، مع إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية ،وإيقاف المؤسسات التعليمية والتعبدية والمطاعم والمقاهي ، ومنع السفر والتنزه، والزيارات والتجمعات،.. حتى تتمكن من التحكم في هذا الوباء ومحاصرته ، فنتج عن ذلك توقف الحركة الاقتصادية على الصعيد الداخلي والخارجي، في عدد من القطاعات التجارية والصناعية ، كان لها الأثر البالغ في تدهور معيشة كثير من الفئات الاجتماعية التي تشتغل في هذه القطاعات، كما ألحقت خسائر كبيرة برجال ونساء الأعمال، والأنظمة الاقتصادية الكبرى لكثير من دول العالم .
هذه الخسائر الكارثية ،شكلت أزمة حقيقية لجل دول العالم، جعلت الخبراء يتوقعون انخفاض في نسبة نمو الاقتصاد العالمي إلى أدنى مستوياته ، وهو ما لم يحصل منذ عقود من الزمن، إضافة إلى انخفاض نسبة النمو لكل دولة على حدة، خاصة الدول الفقيرة والاستهلاكية التي تعتمد على الاستيراد أكثر.
كما أن هذه التوقعات المهولة قد دفعت بكثير من المفكرين والخبراء، ومراكز الدراسات بالعالم أجمع، إلى رسم ملامح النظام العالمي الجديد ما بعد كورونا، وما سيؤول إليه نظام العولمة ،ومصير مختلف الاتحادات، والتحالفات ،والعلاقات المتشابكة بين الدول، والتغيرات المتوقع حصولها اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا ،على الصعيد العالمي، وفي كل دولة على حدة.
وفي نظري أن الحديث عن التوقعات والخطوات المستقبلية التي يجب اتباعها يجب ألا تكون بمعزل عن دراسة أسباب النجاح في التعامل مع الوباء عند بعض الدول، وأسباب الفشل لدى البعض الآخر، خاصة مع التباين الملحوظ بين دول العالم في طريقة التعامل مع هذا الوباء بادئ الأمر، وما نتج عنه من مخلفات ، وآثار اختلفت في حدتها وشدتها من بلد لآخر . أما إذا أردنا أن نتحدث عن مستقبل الإسلام بعد زوال هذه الجائحة بحول الله تعالى ، فلابد أن نقف قبل ذلك وقفات مع الآثار الإيجابية لأحكام الإسلام وتعاليمه وقيمه في تعامل المسلمين مع هذا الوباء بكل وعي ومسؤولية وواقعية ،والتي بفضل احترامها جنبت الكثير منهم الوقوع في الأسوء ، وساهمت في حصول تجاوب كبير بين الشعوب الإسلامية و حكوماتها ، بخضوعها لإجراءات العزل الصحي ، وتمكينها من النجاح في القيام بإجراءات استباقية للتخفيف من حدة هذا الوباء.
هذه المواقف التي أبانت عن وعي كبير لدى المسلمين،- والتي استمدوها من تعاليم دينهم- أكسبتهم الكثير من الاحترام و التقدير في مختلف الأوساط في العالم أجمع، لذا وجب الوقوف عند أهمها والتي تتمثل في ما يلي :

  • التحسيس بأهمية الحجر الصحي والوقاية من الأمراض المعدية في كثير من النصوص الشرعية المعلومة مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ” إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها “
  • التأكيد على أهمية النظافة والطهارة التي تحث المسلم على العناية بنظافة بدنه وثوبه ومكانه ،وإماطة الأذى عن الطريق ، والنهي عن إحداث النجاسات أو إلقائها في الأماكن التي يستظل فيها الناس أو يتجمعون فيها ، أو التبول في المياه الراكدة ، إضافة إلى كثير من أحكام الطهارة والوضوء والغسل التي تحدث عنها الفقه الإسلامي بإسهاب .
  • الدعم النفسي للمسلم من خلال كثير من النصوص التي تبين فضل الصبر على الابتلاء والرضا بقضاء الله وقدره خيره وشره ،وأن أمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وأن الله إذا أحب عبدا ابتلاه .. هذا الدعم النفسي كان له الأثر الإيجابي في التوازن النفسي لدى الكثير من المسلمين، حيث قلل من ردود الفعل الشاذة عن طبيعة المجتمع الإسلامي وثقافته، كاليأس و القنوط من رحمة الله، أو التمرد والجزع ،ولم يسجل بفضله أي تطور ملحوظ في حالات الانتحار بالمقارنة مع بعض الشعوب والثقافات الأخرى.
  • العناية بالمسنين ورعايتهم ،امتثالا للنصوص الشرعية التي أكدت على ضرورة البر بهم والإحسان إليهم ،وإجلال ذي الشيبة منهم وتفقدهم، كقوله صلى الله عليه وسلم ” إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم..” وهو ما لوحظ في بلادنا الإسلامية التي حافظت على كرامة هذه الفئات، وأولتها مزيدا من العناية الصحية والاجتماعية ،سواء من كان منهم بدور العجزة ،أو بالمؤسسات الصحية ، أو في القرى النائية ، أم في محيطه الأسري، بل إن الإسلام ظل يهتم بهذه الفئة من المواطنين عبر مر التاريخ حتى لو كانوا من غير المسلمين، ومن ذلك ما رواه أبو يوسف وغيره أن عمر رضي الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه فقال “: من أي أهل الكتاب أنت ؟ قال يهودي ، قال فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله بشيء، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ، فو الله ما أنصفناه إذ أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم” وهنا يتضح الفرق بين هذه المواقف العظيمة للمسلمين، وبين من يرى التضحية بهذه الفئات ،و التخلص منها باعتبارها مجرد عبء، كما صرح بذلك بعض الزعماء في المجتمعات الرأسمالية المادية ،حتى أن كثيرا من المسنين لقي حتفه – مع الأسف – نتيجة الإهمال في كثير من الدول التي تزعم الحضارة والتقدم.
    وهنا اكتشف العالم الفارق الكبير بين نظرة الإسلام للإنسان أيا كان، ومدى عنايته به حتى في أصعب الظروف والأحوال ، وبين أنانية وغطرسة رواد المدنية الحديثة ، وزيف ما رددوه من شعارات حول حقوق الإنسان .
  • الاستجابة لتعاليم الإسلام التي تدعوا إلى حسن تدبير المال وعدم تبذيره ، من خلال التوسط في إنفاقه مع مراعات الأولويات والضروريات أولا، امتثالا لقوله تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) ( الفرقان : 67) ، وقوله تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) ( لقمان :29) وغيرها من النصوص الكثيرة في هذا الباب، خاصة في ظل الأزمة التي خلفها هذا الوباء، والتي أصبحت تفرض على الجميع العمل على التدبير الأمثل لمصاريفهم ونفقاتهم ، سواء تعلق الأمر بالفئات الفقيرة من أجل ضمان قوتها اليومي ، والتمكن من توفير الحد الأدنى من ضروريات العيش، أم الفئات الميسورة المطالبة بالحد من تبذير المال في مجالات اللهو والترفيه المبالغ فيه ،وفي كل مالا يجدي نفعا. . فكثير من هؤلاء سيندمون ولا شك – في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية – على ضياع كثير من الأموال التي تم تبذيرها في الشكليات والمظاهر، و الترفيه والتفاهات، والقمار والسهرات ، عوض استثمارها في مشاريع تعود عليهم وعلى أفراد مجتمعهم بالخير والنماء وفي هذا الباب استحضر موقف عمر رضي الله عنه مع أحد الصحابة حين سأله مستنكرا : ” أوكلما اشتهيت اشتريت”
    وما يقال عن الأفراد يقال عن حكومات الشعوب الإسلامية من باب أولى، حفظا للمال العام، وأملا في العمل على وضعه في مكانه الصحيح ، وتوجيهه إلى الخدمات الاجتماعية والاقتصادية بروية وتشاور وحسن تخطيط ، مع استخلاص الدروس والعبر من أخطاء الماضي، حتى لا تهدر الأموال بشكل مبالغ فيه في بعض القطاعات المحدودة النفع كالرياضة والفن وكل ماله صلة بالترفيه، على حساب القطاعات الأساسية التي تخدم الحاجات اليومية للمواطنين اقتصاديا واجتماعيا وتربويا بما فيها خدمات البحث العلمي.
    كما أن العالم سيندم ولاشك على كثير من الأموال التي تم تبذيرها في معارك وهمية ، وحروب ظالمة، وصراعات زائفة، كما حصل في أفغانستان والعراق سابقا ، وما يحصل الآن في سوريا وليبيا واليمن ، والتي انتهكت فيها كثير من الحرمات والدماء والأموال، إضافة إلى كثير من الأموال التي أهدرت في الفسق والفجور وتلميع النجوم والإعلام الفاسد وما شابه ذلك .
  • الوعي المجتمعي بخطورة الاحتكار وتحريمه في الإسلام ساهم إلى حد كبير في تقليص هذه الظاهرة في البلدان الإسلامية وحماية المنتوجات الاستهلاكية من جشع المحتكرين وتجار الأزمة ، وأفضى إلى استقرار الأسعار وعدم وجود خصاص ملحوظ في المواد الغذائية خصوصا ، في ظل الظروف الصعبة للحجر الصحي وتبعاته .
  • التشبت بتعاليم الإسلام وقيمه كان حصنا لكثير من الشباب الملتزم الذين تحلوا بخلق العفة عملا بقوله تعالى : ” وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ” ( النور: 33 )، أو الذين سارعوا إلى الزواج امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم : ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” ، مما انعكس إيجابا على صحتهم النفسية، واستقرار أحوالهم، رغم امتداد فترة الحجر الصحي، بخلاف من تعود على أماكن الفسق والفجور، وحانات الخمر والعلب الليلية، أو المذمنين منهم على القمر، أو المخدرات وغيرها من الملهيات ،فإن حرمانهم من كل ذلك، سيصيب الكثير منهم بالضيق والحرج الشديد ، عسى أن يؤول في أحسن الأحوال إلى محاسبة النفس والتوبة إلى الله عز وجل، وإدراك خطورة هذه المفاسد على العقل والنفس والمال ، وأن الخير كله في هدي الإسلام .
  • إغلاق المساجد رغم أهميتها ودورها العظيم في التربية الروحية، وفي الاجتماع على الطاعة والعبادة ،والوعظ والارشاد، لم يشكل عائقا كبيرا للمسلمين في أداء فريضة الصلاة نظرا لتميز دين الإسلام عن بقية الأديان الأخرى بإمكانية أداء الصلاة في أي بقعة طاهرة من الأرض ،وهي من الأمور الخمسة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم : ” ..وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” ، وفي هذا دلالة على أن شريعة الإسلام تتميز بالواقعية واليسر ورفع الحرج وأنها رحمة للناس ، تراعي جميع الظروف والأحوال وتصلح لكل زمان ومكان .
  • دعوة الإسلام إلى التكافل والتضامن الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى ، وتفقد الأقارب والجيران، والإحساس بآلام الفقراء والضعفاء، كان لها أثر كبير في مسارعة كثير من المحسنين، والجمعيات، إلى القيام بمبادرات مشكورة لصالح الفئات الفقيرة والمعوزة، إضافة إلى إسهامات الجهات الرسمية في إحداث صناديق ،ولجان لليقظة للعمل على حسن تدبير الأزمة، والتخفيف من آثارها الاقتصادية، والاجتماعية ، والصحية ، ..وهو ما يتوافق مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها السامية التي تتمثل في محاربة كل أشكال الهشاشة والفقر.
  • تأكيد الإسلام على العناية بالبيئة وحمايتها من كل أشكال الفساد، مع حسن استغلال ثرواتها، كما تؤكد على ذلك نصوص الشرع التي تدعوا إلى إعمار الأرض وإصلاحها، ووجوب شكر النعم والخيرات التي سخرها الله تعالى للإنسان في البر والبحر، وأودعها في الطبيعة ،يتناسب بشكل كبير مع فترة الحجر الصحي الذي شهد فترة نقاهة تخلصت خلالها أجواء الطبيعة من الفساد الناتج عن تلوث المصانع ووسائل النقل بالحد من الانبعاثات الكربونية . وقد ساهم ذلك في تعافي طبقة الأوزون حسب شهادة الخبراء في هذا المجال. قال تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) ( سورة الروم : 41)
  • إضافة إلى أن المسلم يستطيع أن يتعامل مع فترة الحجر بإيجابية تبعا لتوجيهات الإسلام التي تنص على أهمية ملء أوقات الفراغ واستثمار الوقت في العبادة والطاعة وذكر الله عز وجل وطلب العلم ، والقيام بأعمال تعود بالنفع على أفراد أسرته ومجتمعه، كما أنه سيجد فيها فرصة كبيرة لتوجيه أولاده وتربيتهم وتعليمهم ما يحتاجونه لدينهم ودنياهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والاستئناس بهم في جو من الود والاحترام قلما يجود الزمان بمثله، خاصة مع الضغط الذي تعيشه الأسر في الأيام العادية . قال صلى الله عليه وسلم :” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ” ، و قال أيضا عليه الصلاة والسلام: ” اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ” .
    ولا شك أن المسلم إذا كان مدركا لأهمية هذه التعاليم ، حريصا عليها ومتشبثا بها ،سيكون بإذن الله في أحسن الأحوال خلال فترة الحجر، وسيحسن التعامل مع ظروفه الصعبة ، نفسيا وروحيا ،وماديا، بخلاف من كان جاهلا أو غافلا أو جاحدا بها، فإنه سيجد كثيرا من المعاناة ولا ريب ، قال تعالى : ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا..) (سورة طه : 123 -124)
    وبهذا يتضح مدى تميز تعاليم دين الإسلام ،وآثارها الطيبة على المسلمين في تخطي مثل هذه الظروف الصعبة ،وفي مواجهة مختلف الإكراهات المرتبطة بها .
    آراء و تصورات حول مستقبل الإسلام بعد الوباء
    بناء على المعطيات السابقة أرى أن أمر الإسلام سيؤول إن شاء الله تعالى إلى ما هو خير وأحسن ، وأن صورته ستتحسن لدى كثير من الناس في العالم، خاصة وأن كثيرا من المسلمين في الغرب قدموا تضحيات كبيرة في الخدمات الاجتماعية والصحية ، ومنهم كثير من الأطباء الذين قدموا مجهودات كبيرة في إنعاش المصابين ،وخدمتهم ، بل إن بعضهم فارق الحياة في المستشفيات الغربية ثمنا لتفانيهم في القيام بواجبهم المهني. ومما يشهد لذلك أن ولي عهد مملكة بريطانيا قدم كلمة شكر وعزاء في تسجيل مرئي للجاليات المسلمة هناك ،وبارك لهم شهر رمضان، وتأسف على افتقاد أجوائه الروحية، وحملات التضامن الاجتماعي التي تنطلق من المساجد، في ظل إجراءات الحجر، إضافة إلى كثير من الشهادات الأخرى.
    كما تبين خلال فترة الحجر أهمية استخدام مختلف التطبيقات الرقمية في التواصل مع العلماء والدعاة ،والمؤسسات الدعوية ، وهذا سيكون له أثر طيب على مستقبل الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج، وفي توعية الجاليات المسلمة بأحكام الإسلام ،وخصائصه، ومزاياه ،حتى يكونوا أهلا لتمثيل الإسلام في ديار الغرب، باعتبارهم سفراء للمسلمين هناك، ومرآة للإسلام أمام الآخرين. وقد شهد كثير من المؤطرين والمؤطرات الذين يشتغلون في حقل الدعوة ،أن دروسهم اتشرت بشكل كبير ، وأن كثيرا من المستفيدين الجدد التحقوا بمجموعات ” الواتساب” وغيرها ،مما يبشر بالخير الكثير في المستقبل القريب. وهذه التطبيقات ستساهم في ربح كثير من الجهد، والوقت، والمال الذي كان يصرف جراء التنقلات ، والإجراءات القانونية ،والتنظيمية التي تتطلبها بعض اللقاءات والمؤتمرات . وليس معنى ذلك أنه سيتم الاستغناء عن الدعوة المباشرة في الأوساط الأخرى ، بل ستبقى هي الأصل ، نظرا لمزاياها المتعددة كما هو معلوم ، وإنما سيلجأ للتقنيات الأخرى من باب الدعم والتكميل ، أو عند تعذر عقد اللقاءات والاجتماعات بسبب البعد، أو بسبب الموانع المناخية والطبيعية ،وما إلى ذلك ، فكثيرا ما تؤجل اللقاءات أو تلغى، أو يتعذر سفر كثير من العلماء والمفكرين والدعاة لأسباب خاصة أو ظرفية، فيحرم كثير من الناس في بلاد الغرب والمناطق النائية على الخصوص من الاستفادة والتكوين في مختلف حقول الدعوة .
  • ومن المتوقع أيضا أن يتأثر مستقبل الدعوة الإسلامية كثيرا بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد انحسار الوباء ، لذا وجب على كل العاملين في حقل الدعوة الوعي بطبيعة المرحلة ، وتركيز جهودهم الدعوية أيضا على الجوانب التي ستساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للأمة ، لأن الدعوة الإسلامية لا تقتصر على الأقوال، وإنما تكتمل ثمارها بالمبادرات والأفعال، وخير مثال على ذلك ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من مبادرات في هذه المجالات، كالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي نتج عنها قمة التعاون بين المسلمين، في أمور المعاش والمعاد ، وفي تضامنهم مع أهل الصفة، وفي تجهيز جيش العسرة ، وفي حث المسلمين على الصدقة والوقف ، وخاصة ما يتعلق بالضروريات الأساسية كالماء ، روي في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” من يحفر بئر رومة فله الجنة” ، فحفرها عثمان ، وقال : ” من جهز جيش العسرة فله الجنة ” ، فجهزه عثمان” . كما كان عليه الصلاة والسلام يثني على كل المبادرات الإنسانية النبيلة، كحلف الفضول الذي قام في الجاهلية لنصرة الضعيف والمظلوم وإعانته، والتضامن بين الأشعريين، الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم : ” إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم ” . وفي الظروف الصعبة كان الحكام المسلمون عبر تاريخ الإسلام يتضامنون مع سكان البادية ويرزقوهم من أموال الفيء، ومن ذلك ما روي عن أبي عبيدة بن الجراح أن رجالا من أهل البادية سألوه أن يرزقهم فقال : ” لا والله لا أرزقكم حتى أرزق أهل الحاضرة ، فمن أراد بحبحة الجنة فعليه بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة” . وروي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى يزيد بن الحصين أن مر للجند بالفريضة، وعليك بأهل الحاضرة، وإياك والأعراب، فإنهم لا يحضرون محاضر المسلمين، ولا يشهدون مشاهدهم ” . قال أبو عبيد رحمه الله معلقا على الأثرين السابقين : ” ليس وجه هذا عندنا أن يكونوا لم يروا لهم في الفيء حقا ، ولكنهم أرادوا أن لا فريضة لهم راتبة تجري عليهم من المال، كأهل الحاضرة الذين يجامعون المسلمين على أمورهم، ويعينونهم على عدوهم ….ثم قال: ولأولئك مع هذا، حقوق في المال لا تدفع إذا نزلت ، وهي ثلاثة أوجه : أحدها أن يظهر عليهم عدو من المشركين، فعلى الإمام والمسلمين نصرهم، والدفع عنهم بالأبدان والأموال، أو تصيبهم الجوائح من جدوبة تحل ببلادهم ، فيصيرون منها إلى الحطمة والأرياف، فلهم في المال المغوثة والمواساة، أو يقع بينهم الفتق في سفك الدماء حتى يتفاقم فيه الأمر، ثم يقدر على رتق ذلك الفتق، وإصلاح ذات البين ،وحمل تلك الدماء بالمال، فهذا حق واجب لهم ” . وتبعا لتقارير الكثير من الخبراء، يجب علينا أن نتوقع أسوأ الاحتمالات في القطاعات الاجتماعية ، حيث يتوقع ازدياد نسبة البطالة والفقر، وانخفاض نسبة الدخل اليومي للفرد في البلاد العربية والإسلامية ، مع فقدان مناصب الشغل، وقلة فرص الاستثمار، وما إلى ذلك، وبالتالي أرى أن من واجب الدعاة إلى الله تحسيس المسلمين على الدوام بفضل الإنفاق في سبيل الله ، وفعل الخير، وتفريج كرب الفقراء والمحتاجين، ..والأهم من ذلك كله، هو العمل بجدية على تحفيز أهل الخير من المحسنين على إحداث جمعيات ،أو تعاونيات لتنظيم عملية التبرع بما يسد الخلة ،ويحقق النفع أكثر للفئات المحتاجة ،والمتضررة ،لأن كثيرا من التبرعات تصرف عشوائيا باجتهادات فردية، فيقل نفعها مقارنة مع التبرعات التي تخضع لحسن التدبير، والتخطيط سواء تعلق الأمر بالزكاة الواجبة ،أم بسائر التبرعات الأخرى، كالأوقاف والهبات والوصايا…
    وعلى العاملين في الحقل الدعوي التنسيق فيما بينهم في هذا المجال، عن طريق الجمعيات الدعوية التي ينتمون إليها، أو خارجها ، للبحث عن السبل المثلى لترشيد التبرعات ،وخاصة التبرعات الكبرى كالأوقاف الخيرية ، والعمل على مأسسة الزكاة في الإطار الشعبي على الأقل ، في انتظار قيام الجهات الحكومية بذلك – بدءا بالعالم القروي، لسهولة حصره، وإحصاء زرعه، وغرسه، وماشيته – ،حتى يكون لها أثر في التنمية الاجتماعية ، سواء تعلق الأمر بالتكتلات الكبرى، كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وما كان على شاكلته، لخدمة قضايا المسلمين عامة ،أم بالتكتلات الصغرى، على صعيد البلد الواحد أو الجهات أو الأقاليم.
    فبالنسبة للتكتلات الكبرى كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، أرى أن يضم لجنة تهتم بقضايا المسلمين الاجتماعية، فتعمل على التواصل مع كبار المستثمرين والمحسنين في البلاد الإسلامية ، قصد البحث عن مصادر لتمويل المشاريع الخيرية ذات النفع العام، بما فيها المشاريع العلمية ،التي تخدم التربية والتعليم والبحث العلمي في العالم الإسلامي، مع الاستعانة بخبراء في المجالات المعنية ، مع تنظيم مصارف أموال الزكاة ،إضافة إلى العمل على إحداث أو إحياء المؤسسات الخيرية والإغاثية في العالم الإسلامي بشكل قانوني، فلم يعد هناك مبرر لمنعها تحت غطاء محاربة الإرهاب، بل إنها في ظل هذه الظروف ستدعم جهود الدولة في التخفيف من حدة الفقر والعوز الاجتماعي .
    أما التكتلات والجمعيات الصغرى فسيكون لها أثر ايجابي في تنمية الاقاليم التي تعاني أكثر من الهشاشة والفقر، على أن تضم بعض أهل الخير والإحسان، مع الاستعانة بأهل العلم وأهل الخبرة، ويبقى دور الدعاة والعاملين في الحقل الديني هو التوجيه والتنسيق بين مختلف الأطراف، مع الارشاد إلى أهمية الاوقاف على وجه الخصوص في خدمة الصحة ،والمجال العلمي، والفلاحي ،وغيرها، حتى لا تبقى محصورة في بناء المساجد ودور القرآن فقط ، لأن كثيرا من المحسنين يعتقدون أن الثواب والأجر العظيم لا يتعداها إلى غيرها ، وهذا خطأ ، فقد كان للأوقاف في تاريخ الإسلام دور في سائر المجالات الاجتماعية ،والاقتصادية، والثقافية ، فساهم بشكل كبير في التنمية ،وفي رقي الحضارة الإسلامية وازدهارها، إلى درجة أن بعض الأوقاف كانت مخصصة للحيوانات الضالة و الشاردة . لذا وجب على المسلمين اليوم، أن يكونوا على وعي بأن ثواب الله عظيم، وشامل لكل من ساهم في تفريج الكرب عن المسلمين بإحداث أوقاف تخدم مصالحهم المختلفة في جميع المجالات، فقد تكون الحاجة إلى الماء في بعض القرى، أو إلى خدمات صحية ، أو مأوى للطلبة، .. أو تعبيد طريق ، أولى من حاجتهم إلى إضافة مسجد آخر، نظرا لقلة الكثافة السكانية بالقرى، ورغم ذلك، كثيرا ما نجد أكثر من مسجد في القرية الواحدة التي لا يصل تعداد سكانها إلى مائة نسمة ، وهم في أمس الحاجة إلى الخدمات السالفة الذكر، وقس على ذلك . كما أؤكد على أهمية الأوقاف التي تعنى بخدمة البحث العلمي، وطلاب العلم، من أجل تحفيزهم في جميع التخصصات التي تحتاجها الأمة الإسلامية ، و يمكن للمحسنين من الطبقة المتوسطة أيضا، أو دونها بقليل، المساهمة في تجهيز الأوقاف ،والمؤسسات ذات الخدمات الاجتماعية والثقافية حتى ينعم الجميع بفضل الصدقة الجارية ، ويستفيد المجتمع أكثر من منافعه، كالقيام بوقف بعض الأجهزة الطبية ، أو الأسرة ، أو كتب دراسية ، أو أجهزة إلكترونية أو كراسي متحركة.. إضافة إلى ما يتعلق بخدمة القرآن والعلم الشرعي والدعوة إلى الله عز وجل جنبا إلى جنب ،لأن تسبيل سرير لمؤسسة صحية أو خيرية، أفضل بكثير من التصدق به على أعيان الناس، لعموم منفعته واستدامتها .
    ومن ناحية أخرى أحب أن أؤكد أن مستقبل الإسلام والمسلمين يتوقف أيضا على مدى عناية كافة المتدخلين بالجانب الاقتصادي، مع حسن تدبير الدولة للمال العام، وموارد البلاد، وطاقات أبنائها، فالمال عصب الحياة . و يتوقف ذلك أيضا على مدى وعي رجال الأعمال، والمستثمرين في العالم الإسلامي، وعلى صعيد كل دولة على حدة، بأولويات الاستثمار، ومدى ملائمته لحاجات الناس، ومساهمته في النمو الاقتصادي ،ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتفعيل مبادئ التشاور، وحسن التدبير والتخطيط ، والتعاون بين المؤسسات والجمعيات والمقاولات الاستثمارية فيما بينها، أو مع حكومات بلدانها ،إضافة إلى حسن استغلال ثروات البلاد الإسلامية ،الغنية بالثروات ،والموارد الطاقية، والطبيعية. كما يمكن للمفكرين ،والكتاب المسلمين، وسائر الأفراد والمؤسسات العاملة في الحقل الديني، العمل على توجيه الاستثمار الإسلامي بما يحقق النفع لأمة الإسلام، وفق توجيهات الشرع التي تشجع على استثمار المال بحكمة و حسن تدبير، عوض ادخاره ، مع استلهام بعض النظم والتدابير المالية من الفقه الاسلامي، كالتي تجري عليها حاليا أحكام البنوك الإسلامية التشاركية ، والدفع بالمستثمرين إلى التشارك مع المهنيين ، وأهل الخبرة ممن فقدوا مناصبهم في هذه الجائحة في ما يعرف بشركات (القراض أو المضاربة )، أو اتحاد الحرفيين والمهنيين في شركات أعمال، أو تشارك أصحاب رؤوس الأموال الضعيفة ضمن مقاولات صغرى لشركات الأموال، وهي من الشركات الجائزة في الإسلام بشروط معلومة ، كما يمكن الاستفادة من بعض الاجتهادات الرائدة في تاريخ الإسلام، كنظام الحسبة ، والخراج ،والنسج على منوالها ، وإحداث مؤسسات للتمويل أو القرض الحسن، لتوسيع دائرة الحلول ، وإتاحة الفرصة لأكبر قدر من الناس من ذوي الكفاءات والخبرات على الخصوص ،قصد الحصول على مصدر للرزق، وتحقيق النفع للبلاد والعباد، من خلال استثمار مواهبهم في مشاريع موجهة .
    وينبغي على العلماء والدعاة وكل من له صلة وتأثير في الجاليات المسلمة بديار المهجر، العمل على توجيههم إلى خلق فرص للاستثمار في بلدانهم الأصلية، قصد المساهمة في نموها ورقيها ، وتوفير فرص الشغل ،ونقل التجارب والخبرات التي استفادوها من تلك البلاد إلى بلاد المسلمين ، ودون إخلال بواجباتهم نحو البلاد التي يعملون فيها، من باب الوفاء بالعهود والعقود .
    أما في الجانب السياسي ، فيصعب التكهن بمستقبل العلاقات بين الدول العربية والإسلامية في ظل التوترات والنزاعات والحروب القائمة في كثير من بلداننا ، لكننا نأمل صادقين، أن تسعى حكومات بلداننا إلى بذل مزيد من الجهود لتجاوز الخلافات الهامشية ،والتركيز على المصالح المشتركة ،وإلى تقوية العلاقات فيما بينها ، في جميع المجالات التي تعود عليها، وعلى شعوبها بالنفع ، أملا في حصول الوحدة العربية المنشودة ، خاصة في ظل ما سيشهده العالم من تغييرات على مستوى التحالفات والعلاقات ، وإلا- فعلى الأقل- بتفعيل الاتحادات و التكتلات الجامدة كاتحاد المغرب العربي، والجامعة العربية ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي ، ودول مجلس التعاون الخليجي ، لعلها تحقق بعض المصالح لفائدة الأمة العربية والإسلامية أو تدفع عنها بعض المفاسد، وفي انتظار ذلك يبقى الأمل معقودا على المنظمات والمؤسسات والجمعيات الغير الحكومية في خدمة القضايا الدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالوطن الإسلامي .
    وفي الختام يمكن أن أخلص إلى أن كل هذه التصورات والتوقعات، لا يمكن تحققها إلا بالإرادة القوية، والرغبة الملحة ،والتعاون المنشود بين كل الفاعلين في الحقل الإسلامي، وباقي القطاعات الأخرى ، مع استثمار كل الطاقات والمواهب في البلاد الإسلامية ، وإحداث مراكز ومؤسسات للرصد و التخطيط والدراسات المستقبلية لكل مجال على حدة ،مع الاستعانة في كل ذلك بالله عز وجل، وعدم إهمال الأسباب الشرعية لإعداد العدة ،بكل صبر وثبات، واستخارة ودعاء، وتوكل على الله، عملا بقوله تعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم ) ” سورة محمد :7″ وأملا في تحقق وعد الله عز وجل حين قال : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا ) سورة النور : 55

إعداد : معاذ زحل من المغرب .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. بارك الله فيكم ونفع بكم.. أرى والله أعلم أن تغير عبارة مستقبل الإسلام ب “مستقبل المسلمين”..

اترك رداً على ام ايمن إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى