فقهيات الريسوني

الديموقراطية والمشاركة الشعبية

الديموقراطية والمشاركة الشعبية


التجديد نشر في التجديد يوم 17 – 09 – 2002

أ.د أحمد الريسوني

اشتهرت الديموقراطية منذ القديم بأنها “حكم الشعب” أو “سلطة الشعب” أو “حكم الشعب نفسه بنفسه” إلى نحو ذلك من العبارات التي تفيد أن عموم المواطنين لهم حق التدخل والاشتراك في حكم أنفسهم وتدبير شؤونهم، وفي جميع الشعوب ومنذ أقدم العصور يوجد هذا النزوع ويوجد السعي لكي يكون لعموم الناس على أوسع نطاق ممكن حق المساهمة في تدبير الشؤون المشتركة بينهم، وفي الوقت نفسه ولأسباب وصعوبات علمية أو عملية فإن الناس لجؤوا إلى فكرة التفويض والنيابة والتمثيل. وهذا لا يلغي حق الناس فيما هو مشترك بينهم وفيما له تأثير وانعكاس عليهم، بل إن التفويض والنيابة والتمثيل هو صيغة غير مباشرة لإشراك عدد واسع من الناس بواسطة من يمثلونهم ويمثلون إرادتهم ومصالحهم.
فالفكرة الأساس إذا هي اشتراك من يهمهم الأمر على أوسع نطاق ممكن وبأفضل صيغة ممكنة، في تدبير شؤونهم وفي التداول والتشاور حولها. وهذا هو المبدأ الذي جاءت به الشورى الإسلامية وأمرت به.

تجديد الفهم حول آيتي الشورى


قال الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) (1) وقال مخاطبا وآمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم (وشاورهم في الأمر) (2).
فالآية الأولى قررت عددا من أسس الإسلام ومسلماته التي تقوم عليها الحياة الإسلامية، فذكرت من بينها أن أمور المسلمين تكون شورى فيما بينهم، فلا ينفرد بها ولا يستبد بها أحد دونهم. والآية الثانية أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الوحي والعقل والعصمة والنزاهة أن يشاور المؤمنين في الأمر الذي يعنيهم، وأن يشركهم في تدبيرهم ومعالجته.
هذا هو منطوق الآيتين، وهذا هو المعنى المعلوم منهما ضرورة، لكن كثيرا من العقول والأفهام كبر عليها أن تتصور الشورى متاحة للعوام وللجمهور ومفتوحة لمن هب ودب من الناس، فقالوا الشورى لا تكون إلا للخاصة أي لا تكون إلا للنخبة، بل كبر وثقل على كثير من الولاة والأمراء و”الخلفاء” أن تكون الشورى متاحة ومفتوحة، ليس للعامة والدهماء، بل حتى لكل الخاصة من العلماء والنبهاء والخبراء، فاتخذوا لأنفسهم من هؤلاء من شاؤوا ليشاوروهم إن شاؤوا، ومتى شاؤوا، وليفعلوا بعد ذلك أو قبله ما بدا لهم. على كل حال فقد شاوروا..!!
هؤلاء وهؤلاء قد عطلوا في أحسن الحالات ضيقوا وقلصوا معنى الآيتين أولا، ولم يدركوا مغزاهما ومرماهما ثانيا.
فأما التعطيل أو التضييق للآيتين، فلأن في الآيتين عموما تم تخصيصه وتقليصه بلادليل بل على عكس الدليل. ولبيان ذلك أقف عند الآيتين في سياقهما واحدة واحدة.
فقوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) جاء في السياق التالي ( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يتجنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون).
فالآيات تخبر وتبشر أن ما عند الله تعالى من ثواب ونعيم وتكريم، هو خير وأعظم من متاع الدنيا، وهو أدوم وأبقى، لكنه لأصحاب الصفات المذكورة التي تبتدئ بالإيمان وتنتهي بمقاومة البغي، ومن البغي الاستبداد بمصالح الناس وشؤونهم من دونهم.
فهل المخاطبون بهذه الصفات المدعوون إليها، الموصوفون بها، هم كل المؤمنين وعامة المسلمين، أم بعضهم خاصة؟ هل أحكام الآيات، والضمائر الواردة فيها، تفيد العموم أم تفيد الخصوص؟
إن المتحدث عنهم في الآيات كلها هم أنفسهم، من بدايتها (للذين آمنوا) إلى نهايتها (هم منتصرون)، فكيف تنتزع عبارة (وأمرهم شورى بينهم) ليقال فيها وحدها إنها ليست على عمومها، وإنها مخصوصة، وإن حكمها يقتصر على فلان وفلان، أو على الصنف الفلاني، أو على من يعينهم الأمير ويرتضيهم؟ هذه العبارة لم يتم انتزاعها وتمييزها عن سياقها فحسب، بل تم ذلك في الآية الواحدة، وهي (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) هذه آية واحدة جعلوا بعضها عاما لجميع المسلمين، وبعضها خاصا بأفراد منهم!!
أليس هذا تعديا على معاني القرآن وتمزيقا لنظمه وسياقه؟!
وأما قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) فقد جاء ضمن هذه الآية (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).
فها هنا أيضا ذهبوا إلى أن قوله تعالى (وشاورهم) للخصوص لا للعموم، حتى قال بعضهم (فيما روي): المراد أبو بكر وعمر؟! وكان يلزمهم عند تخصيصهم للأمر بالشورى أن يقولوا بالتخصيص في الآية كلها لأن الضمير في قوله (وشاورهم) هو نفسه في كل الآية (لنت لهم، لانفضوا، عنهم، لهم، وشاورهم).
والذي أريد أن أخلص إليه هو أن الشورى حكم عام وحق عام، مشاع بين المسلمين، فيما هو مشترك بينهم وفيما هو مشاع بينهم، وفيما له آثار وانعكاسات وتبعات عليهم، لكن ليس لهذا الحكم ولهذا الحق طريقة وكيفية واحدة محددة، بل في الأمر شورى واجتهاد. كما أنه ليس من الممكن ولا من المناسب أن يستشار كل الناس في كل القضايا وفي كل الأحوال.
فلذلك صار من المسلمات ومن البدهيات الشورية والديمقراطية أن تنحصر الشورى في كثير من الأحيان في ناس مخصوصين، وفي فئات محدودة، إذا كانت الشورى العامة أو الموسعة متعذرة أو غير مجدية. المهم أن اعتماد الشورى الخاصة (كما في حالة أهل الحل والعقد)، أو الديمقراطية النيابية (كما في الهيئات المنتخبة) لا يلغي الأصل الذي هو عموم الشورى، متى كان العمل به ممكنا ومجديا، سواء تعلق الأمر بشعب أو قطر، أو تعلق الأمر بمدينة أو قرية، أو بجماعة أو فئة..
فهذا هو مقتضى الآيتين العامتين، وهو منطق العدل والمساواة، حيث إن ماهو مشترك بين الناس، فهم من حيث المبدأ شركاء في حق تدبيره والبث بشأنه، سواء بأنفسهم أو بواسطة نوابهم ووكلائهم.

مغزى ومرمى آيتي الشورى


وأما مغزى الآيتين ومرماهما في جعل الشورى متاحة ومفتوحة للجميع بقدر ما يكون ذلك ممكنا ومنتجا، فلأن الشورى مدرسة وليست مجرد آلية لحسم الخلاف واتخاذ القرار. الشورى مدرسة تجمع الأستاذ والتلميذ والمدير، وتجمع المجتهد والمقتصد، والسابق واللاحق. وفي هذه المدرسة يعرف الناس بعضهم بعضا ويتعلم بعضهم من بعض، ويناقش بعضهم بعضا، ويصحح بعضهم لبعض.
والشورى العامة أو الموسعة تخرج الناس من فرديتهم وأنانيتهم إلى رحاب الجماعة والمجتمع وتخرجهم من نفسية الاستقالة إلى الشعور بالمسؤولية وبأن لهم مكانا وأن لرأيهم أثرا، وأنهم شركاء في البحث عن الحلول مثلما هم شركاء في المشاكل، وأن بإمكانهم الإسهام في تدبير واقعهم ومستقبلهم.
وكل هذا في الحقيقة ينقل الجماعات والمجتمعات من الجهل إلى التعلم، ومن اللامبالاة إلى اليقظة والمبادرة، ومن العجز والخمول إلى الحيوية والفاعلية ومن التفرق والتفكك إلى الوحدة والتكتل..
وحينما تغيب هذه المرامي والمقاصد وتظهر الشورى على أنها مجرد وسيلة وآلية لاستخراج الآراء الرشيدة واتخاذ القرارات السديدة من أهل الاختصاص، حينئذ لا يبقى عند أصحاب هذا الفهم معنى لإتاحة الشورى (لمن هب ودب)، ولا معنى عندهم لإشراك العوام وإقحامهم في ما ليس من شأنهم، بل هو دائما شأن خاص بأهله.

الديمقراطية أخلاق وتخليق

مما لا يخفى على أحد أن الديمقراطية والأخلاق تمثل أساسا وهدفا لكل ما جاء به الإسلام من أحكام وتشريعات ومن نظم وتكاليف وآداب. فالبناء الإسلامي قائم على الأخلاق، وقائم بالأخلاق، ومتجه نحو الأخلاق. بل إن تخليق الإنسان فردا وجماعة هو المبتدأ والمنتهى، وهو الوسيلة والغاية لكل إصلاح جاء به الإسلام. ونظرا لشدة وضوح هذه المسألة ووفرة نصوصها في كل أنحاء القرآن والسنة، فلا حاجة إلى التدليل عليها والاستشهاد والتمثيل لها. ولكني أذكر مجرد تذكير بالكلمة الجامعة التي لخص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالته ومقاصد بعثته حين قال: >بعثت لأكمل حسن الأخلاق< (3)
فهل للديمقراطية علاقة بالأخلاق والتخليق؟ هل للديمقراطية مدخل إلى الأخلاق؟ أو بالأحرى هل للأخلاق مدخل إلى الديمقراطية؟
مرة أخرى، أجدني بحاجة إلى التذكير بأنني لا أتحدث عن الديمقراطيات المزعومة هنا وهناك، ولا أتحدث عما قد يشوب الممارسات الديمقراطية، من انزلاقات وانحرافات. كما لا أتحدث عما قد يترافق مع الديمقراطية أو يحيط بها من فساد خلقي في المجتمعات، مما لم تنتجه الديمقراطية من حيث هي ديمقراطية، وإنما هو فساد له أسبابه ومنابعه وفلسفته، سواء حضرت الديمقراطية أو غابت.
وإنما أتحدث عن الديمقراطية من حيث مبادؤها ونظمها أو مساطرها، وأيضا من حيث الأهداف المتوخاة منها ومن حيث الممارسة السليمة لها، فحين ننظر إلى الديمقراطية على ماهي عليه في ذاتها، فإننا نجد لها أبعادا وآثارا خلقية واضحة وملموسة.
ولقد مر في ثنايا الفقرات السابقة العديد من الأسس والقيم الأخلاقية والديمقراطية، كالعدل والمساواة، والتعاون والتفاهم بين الأفراد والجماعات، حيث إن الديمقراطية تشجع على هذا وتساعد على إنجازه وتصريفه بكيفية منظمة ومتحضرة.

الديمقراطية تعلم التواضع

إن الديمقراطية كالشورى تنمي في الناس أخلاق الحوار والتفاهم، وخلق التعايش في حالة الاختلاف فضلا عن حالة الاتفاق.
والديمقراطية تعلم التواضع، حيث إن المنخرط في ممارستها وفي مقتضياتها يعتاد أن يرى نفسه واحدا من أيها الناس، قد يقدم أو قد يؤخر ولا حرج، قد يؤخذ برأيه وقد يأخذ بضد رأيه ولا حرج، وقد يفند رأيه ويظهر ضعفه وخطؤه ولاحرج، الديمقراطية تجعل المناصب والمواقع القيادية دولة بين الناس، تارة يختار هذا وتارة يحل محله غيره، وكثيرا ما كان علماؤنا قديما ينصحون الأمراء بقولهم: >لو دامت (أي الإمارة، السلطة) لغيرك ما وصلت إليك< ولكن ما أقل من كانوا يستوعبون هذه الموعظة البليغة، فلذلك كانوا يعضون على سلطتهم بالنواجذ ويدافعون عنها بالأنياب والمخالب حتى يزيحهم الموت.. واليوم نرى الديمقراطية تقلب الرؤساء والزعماء ذات اليمين وذات الشمال، ولسان حالها يقول لكل من تولى ولاية أو اعتلى منصبا: إن هذا لن يدوم لك، وعما قريب يكون لغيرك، ليس بعد مماتك بل في عز حياتك. أليس هذا درسا بليغا في الأخلاق؟
وأخيرا لا يفوتني أن أقول وقد أشرت مرارا من قبل إن الديمقراطية كثيرا ما تمارس بدون أخلاق، وكثيرا ما تستعمل ضد الأخلاق، وضد مقاصدها وحقائقها بالذات، ولكن لاشك أن الذنب هنا ليس ذنب الديمقراطية، ولكنه ذنب المفسدين الذين ما تلبسوا بشيء إلا أفسدوه وما انتسبوا إلى شيء إلا شوهوه. وعلى قدر أهل الفساد تأتي المفاسد. ولعل أغرب ما يمكن أن يتصور هو أن يتلبس المفسدون المستبدون بشعارات الديمقراطية ونظمها ومساطرها، فيجعلون منها وسيلة ممتازة وأداة متطورة للاستبداد المقيت. وقد خصص الدكتور عصمت سيف الدولة كتابا كاملا لفضح بعض النماذج التي تمثل قمة الاستبداد والتلاعب بالشعوب، لكن بواسطة استعمال قمة الأشكال الديمقراطية (الاستفتاء الشعبي العام). ولذلك سمى كتابه باسم معبر بليغ هو (الاستبداد الديمقراطي).
وهذا إنما يحصل ويحصل غيره حينما تمارس “الديمقراطية” بدون أخلاق بل تمارس بأخلاق الذئاب، مع الاعتذار للذئاب.
وأختم بما ختم به د. سيف الدولة كتابه: >وليس ثمة خطر على حريات الشعوب أشد فتكا من الاستبداد بها بأسلوب لا شك في ديمقراطيته، ليس ثمة خطر على حريات الشعوب أشد فتكا من (الاستبداد الديمقراطي).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ألقي هذا العرض في ندوة الشورى والديمقراطية التي نظمتها “المدارس الحسنية” بالرباط في شوال 1241 يناير 1002
(1) سورة الشورى
(2) سورة آل عمران
(3) الحديث في الموطأ للإمام مالك، كتاب حسن الخلق، وقال عنه ابن عبد البر >وهذا حديث مسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم< ثم ذكر سنده المتصل، بلفظ (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) انظر الاستذكار 62/821 الطبعة الأولى 4141/3991 بتحقيق د. عبد المعطي قلعجي.

نافذة: كثيرا من العقول والأفهام كبر عليها أن تتصور الشورى متاحة للجمهور ومفتوحة لمن هب ودب من الناس، فقالوا الشورى لا تكون إلا للخاصة ، بل كبر وثقل على كثير من الولاة والأمراء و”الخلفاء” أن تكون مفتوحة لكل الخاصة من العلماء والنبهاء والخبراء، فاتخذوا لأنفسهم من هؤلاء من شاؤوا ليشاوروهم إن شاؤوا، ومتى شاؤوا…!!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى