أصحاب و تلامذة الأستاذ الريسوني

ما ضابط البدع السياسية ؟

ما ضابط البدع السياسية ؟

                                                   د. عبد النور بزا

ما كنت لأكتب هذه الورقة لولا ما عقب به أخي الفاضل؛ آدم الجماعي على ما نشرته من مقتطف عن البدع السياسية بمنتدى الحوار العلمي؛ إذ قال:

” ما ضابط البدع السياسية ؟

معلوم أن العملية السياسية اجتهادية وفروع ظنية وتخضع للمتغيرات … فهل هناك ضابط للبدعة السياسية ؟ حتى لا نتطرف في باب الاجتهاديات، ونضبط الثوابت السياسية التي تطرأ عليها البدعة، ولن تسلم منها جماعة إسلامية.”  فهذا الذي حركني لهذا البيان.

وحتى نتأدى إلى تحديد ضابط البدع السياسية، نبدأ أولا بماهية السياسة ؟

1- ماهية السياسة:

أما السياسة في لسان العرب؛ فهي كما قال ابن منظور: ” السياسة؛ القيام على الشيء بما يصلحه … والسياسة فعل السائس القائم بأمور الناس.”[1]

وأما السياسة في الاصطلاح؛ فـ هي ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يشرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا نزل به وحي.”[2]

وهذا يعني؛ أن السياسة منها ما هو من التشريع الإلهي ( مانزل به وحي ). أو النبوي ( ما شرعه الرسول عليه الصلاة والسلام). ومنها ما هو مصلحي اجتهادي؛ ممثلا في مجموع الإجراءات والتدابير المصلحية التي يتخذها أصحاب السلطات العامة لفائدة الخاصة والعامة، ولو لم يأت فيها حكم شرعي خاص؛ كما قال ابن نجيم:” السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي.”[3]

وعليه؛ فالسياسة من الأفعال البشرية التي لا تنحصر فيما نصت عليه الشريعة؛ بل تشمل منصوصاتها وكل ما وافقها، ولم يناقض مقاصدها من الاجتهادات السياسية والإبداعات التدبيرية في تنظيم العمران، ورعاية المصالح العامة في جميع أبعادها الدنيوية والأخروية على حد قول الإمام الكفوي: ” السياسة هي: استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة.”[4] وهو ما يفيد بأن السياسة في التداول الشرعي ليست محصورة في التدبير اليومي الدنـيوي المحض للحياة الإنسانـية، كما هي طبيعة السياسة العلمانـية الوضعية المقطوعة الصلة بأحكام الشريعة ومقاصدها. وإنما هي معنـية أشد العناية بتنظيم المصالح العامة ورعايتها بما يجعل سعادة الدنـيا خادمة لسعادة الآخرة ونعيمها؛ كما هو المفهوم من تعريف السياسة الشرعية عند ابن خلدون؛ فهي: ” حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الدنـيوية والأخروية الراجعة إليها. إذ أحوال الدنـيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. وهذه السياسة في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنـيا به.”[5] وهو معنى ” تشييدُ الدينِ أمرَ السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا.”[6] وهذا المعنى كاف في الدلالة على أنه لا فصل في الإسلام بين الشريعة والسياسة من حيث مرجعيتها التأسيسية، ولا استغناء لبعضهما عن بعض؛ كما قال صاحب الإمتاع:        ” الشريعة سياسة الله في الخلق. والملك سياسة الناس للناس. على أن الشريعة إذا خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة إذا عريت من الشريعة كانت ناقصة.”[7] 

وعلى هذا الأساس ظل الفهم الإسلامي للسياسة وممارستها الفعلية إلى أن ” دخلت في معاجمنا وقواميسنا المعربة المضامين الغربية المتميزة لمصطلح ” السياسة ” …  الأمر الذي أحدث ازدواجية في المفهوم والمضمون، رغم وحدة المصطلح، وهي مشكلة تواجه العقل المسلم في بحثه عن المضامين الإسلامية المتميزة في قواميس ومعاجم خلطت مضامين الغرب بمضامين الإسلام.

فإذا كانت ” السياسة ” في العرف الإسلامي لا تقف عند استصلاح الخلق في العاجلة . الدنـيا. وحدها … فإن ” السياسة ” في الحضارة الغربية ذات الطابع الوضعي، إنما تقف عند تدبير الإنسان لحياته الدنـيا وحدها.”[8]

وبالجملة؛ فالسياسة منها ما هو منصوص عليه شرعا، ومنها ما هو متروك للاجتهاد المصلحي الموافق لقصد الشارع دون مناقضته. ومن ثم؛ فما كان من السياسة منصوصا؛ فالعمل به من آكد ما يجب، ولا يجوز الابتداع فيه بالتبديل مطلقا قولا واحدا. وذلك بحكم أن الابتداع عموما هو:” فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.”[9] من الأفعال المخترعة المضاهية لأحكام الشريعة، سواء في مجال الاعتقاد أو التعبد أو الاعتياد. كما قال الشاطبي:” البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.”[10]

وما بقي متروكا للاجتهاد المصلحي؛ فلا مجال للحديث عن البدعة فيه. وفيما يلي تقريب هذا المعنى بنموذجين من البدع السياسية.

2- نموذجان من البدع السياسية 

2. 1. الحكم بالقوانين الوضعية بدلا من الأحكام الشرعية؛ كما هو المستفاد من قول الشاطبي:” إنَّ الشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ فِي دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، لقوله تَعَالَى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.﴾ [الإسراء: 15] وَقَوله: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.﴾ [النساء: 59] وَقَوله: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.﴾ [الأنعام: 57] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ… فَمنْ خرج عن هَذَا الْأَصْلِ زَاعَمَا أَنَّ له تَّشْرِيعِا آخر من وضعه العقلي؛ فَقد ابْتَدَع فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ.” الموافقات، تحقيق أبو عبيدة مشهور حسن آل سلمان: 2/ 526 ، 527 بتصرف. وهو ما يقطع بأن كل من عطل أحكام الشارع وبدلها بما بدا له من القوانين الوضعية؛ فهو من المبتدعين الضالين ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.﴾ ( القصص: 50 ).

2.2. توريث الحكم والاستيلاء عليه بالقوة، فهذا أيضا من البدع السياسية المناقضة لقصد الشارع في مجال التداول على السلطة بالاختيار السلمي الرضائي من الأمة لمن يصلح لرئاستها وتدبير شؤونها العامة. فهذا هو الأصل الذي جاءت به الشريعة وشهد له إجماع أهل العلم؛ على حد تعبير الجويني:” فلم يبق إشكال في انعقاد الإجماع على الاختيار.”[11]وهو اختيار عبد القاهر البغدادي؛ إذ نص على ” أن طريق ثبوتها الاختيار من الأمة باجتهاد أهل الاجتهاد منهم واختيارهم من يصلح لها.”[12]وذلك بحكم أنها ” عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار.”[13]

وإذا وضح أن خيار التداول على السلطة بالاختيار الرضائي بين الأمة، ومن يتولى سياستها وتدبير شؤونها العامة من أهل الكفاءة العلمية، والصلاح السلوكي، والحنكة السياسية الميدانية؛ هو الأصل الذي قامت على أساسه كل السلطات السياسية الشرعية؛ بدءا بالإمامة السياسية النبوية، وما تلاها من خلافة الراشدين، ومن اقتفى أثرهم في ولاية الحكم؛ فإن كل ما سوى هذا الخيار مما عمت به بلوى التحول السياسي في أمتنا من ” الخلافة الراشدة ” إلى ” الملك العاض ” أو ” الملك الجبري “؛ أو قل إلى ” حكم التغلب العسكري ” و ” التوريث السلالي “؛ فهو من البدع السياسية؛ بل هو ” أول البدع في الإسلام، وأبعدها أثرا على الأمة والملة.”[14] وذلك لحديث ” لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة.”[15]

ولهذا ما فتئ كبار الأئمة يؤكدون على أن ” المرتبة؛ ما جاء قط في الديانة أنها تورث … ولو جاز أن تورث المراتب؛ لكان من ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكانا ما؛ إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه … فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه له للاشتغال به … ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها.”[16]

وهذا ما ذهب إليه القرافي أيضا؛ حيث اعتبر توريث الحكم من قسم البدع المحرمة، ومن المظالم المنافية لقواعد الشريعة؛ فيما نصه:” القسم الثاني: محرم وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة؛ كالمكوس والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد الشريعة؛ كتقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث وجعل المستند لذلك كون المنصب كان لأبيه وهو في نفسه ليس بأهل.”[17]

وهذا المعنى؛ هو ما نص عليه الشاطبي مؤكدا على أن ” تقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بها بطريق التوريث هو من قبيل ما تقدم ( أي من البدع المحرمة ) فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين. وكون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الإبن مستحقا لرتبة الأب، وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب بطريق الوراثة أو غير ذلك، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف؛ بدعة بلا إشكال. زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم، وهو بدعة أو سبب البدعة.”[18]

وبالجملة؛ فالبدع السياسية هي ما كان من المحدثات المخالفة لأحكام الشريعة المنصوصة، وليست فيما هو متروك للاجتهاد السياسي المصلحي المحظ في تدبير الشأن العام بما يخدم الصالح العام. وهذا هو الضابط الذي بموجبه يتم التفريق بين ما تعتريه البدع وما لا تعتريه في مجال السياسة. وبه تم البيان والسلام.   


[1]لسان العرب، م س، ج 6 ص 108.

  – تاج العروس، م س، ج 1 ص 3975.

[2]الطرق الحكمية، م س، ج 1 ص 17.

  – إعلام الموقعين، م س، ج 4 ص 283.

  – بدائع الفوائد لابن القيم، م س، ج 3 ص .

[3]– ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق دار المعرفة، بيروت، د، ط، و ت، ج 5 ص 11.

[4]الكليات، م س، ص 510.

  – محمد أمين ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، بيروت، دار الفكر، ط2، 1386هـ، ج 4 ص 15.

[5]المقدمة، م س، ج 2 ص 563. 

     قال ابن خلدون في سياق آخر:” الخلافة نـيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنـيا به ” المقدمة، م س، ج 2 ص 564.      

[6]المقدمة، م س، ج 2 ص 512.

[7]– أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق، أحمد أمين، وأحمد الزين، طبعة القاهرة، 1944م، ج 2 ص 33.

[8]– محمد عمارة، الإسلام والسياسة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 1414هـ/1993م، ص 112، 115.

  – أندريه هوريو، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، سنة 1977م، ج 1 ص 24.  

  – الإسلام والسياسة، م س، ص 16.

[9] – العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تقديم وتحقيق د. نزيه كمال حماد، ود. عثمان جمعة ضميرية، دار القلم، دمشق: والدار الشامية، بيروت: ط1، 1421ﻫ/2000م، ج2 ص337 – 339.

[10]– الشاطبي، الاعتصام، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار التوحيد، د. ط. و لا ت، ج1 ص43.

[11]غياث الأمم، م س، ص 241.

     الإجماع المقصود هنا، هو إجماع أهل السنة، وعليه يحمل قول وهبة الزحيلي:” فإن جميع الفقهاء أجمعوا على أن الإمامة لا يصح أن تورث.” الفقه الإسلامي وأدلته، لوَهْبَة الزحيلي، دار الفكر، سوريَّة، دمشق، ط4، د، ت، ج 8 ص 290.

     فكما هو معلوم، هناك من لا يعتد بالاختيار ويصر على القول بالنص والوصية، وهم الشيعة الإمامية، وفي هذا يقول محمد مهدي شمس الدين:” ذهب الشيعة الإمامية إلى أن الإمام المعصوم الظاهر هو رئيس الدولة الإسلامية وولي الأمر فيها، وأن يتعين بالنص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم.” نظام الحكم والإدارة في الإسلام، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط4، 1415ه/1995م، ص 396. 

وقال الشيخ محمد المظفر:” نعتقد أن الإمامة كالنبوة، لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان رسوله، أو لسان الإمام المنصوب بالنص … فليس للناس حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية … يجب أن لا يعرف إلا بتعريف الله ولا يعين إلا بتعيينه.” عقائد الإمامية، مؤسسة الإمام الحسين، بيروت، ط10، 1417ه/1997م، ص 96.

[12]– عبد القاهر البغدادي، أصول الدين استانبول، مطبعة الدولة، ط1، 1346ه/ 1926م، ص 279.

[13]– الماوردي، الأحكام السلطانية، تحقيق سمير مصطفى رباب، المكتبة العصرية، بيروت، د، ط  1422ه/2001م، ص 16.

[14]– محمد بن المختار الشنقيطي، الخلافات السياسية بين الصحابة، د، ط، و ت، ص 69.

[15]– أحمد بن حنبل، المسند، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2، 1420هـ/1999م، ج 36 ص 485.

[16]– ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة الخانجي، القاهرة، د، ط، و ت، ج 4 ص 75، 76، 129. 

[17]الفروق، م س، ج 4 ص 353. 

[18] الاعتصام، م س، ج 2 ص417.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى