سياسة المهرجة والبهرجة إلى متى؟
سياسة المهرجة والبهرجة إلى متى؟
نشر في التجديد يوم 18 – 09 – 2004
قبل بضعة
أسابيع، أخذت سيارتي إلى الحارس الليلي كما هي العادة، وقبل أن أغادر السيارة
قافلا إلى بيتي، جاء الحارس مهرولا وهو يناديني ليقول لي:إنهم أخبروه بعدم السماح
بمبيت السيارات في هذا الشارع، كما في الشوارع المجاورة، لأن السيد العامل سيمر من
هنا غدا أو بعد غد… في الصباح لم أجد صعوبة في إدراك السر وراء اختفاء حفر بعض الشوارع
التي تم ترقيعها وتعبيدها وتشطيبها من كثير من الأشياء، بما فيها السيارات، كما تم
إغلاق بعض المحلات غير اللائقة، ومنها بعض المحلات الميكانيكية.
تساؤلات وتعليقات مؤلمة جالت في نفسي، ولكن الذي يخفف ألمها وأحيانا يزيده ويعمقه هو أننا ألفنا هذا السلوك في طول المغرب وعرضه، وحتى التساؤلات والتعليقات في هذا المقام ليس لها كبير جدوى، لأن جميع المواطنين يعرفونها ويرددونها ويتندرون بها، بل أحيانا تجدهم يستحسنون مثل هذا السلوك، بحجة أنهم يستفيدون من المسؤولين الغشاشين الخداعين بعض هذه الإصلاحات الترقيعية والتنظيفية!! فهي في نظرهم مكسب على كل حال.
ومع هذا، فإن الواجب لا يسقط، واجب الرصد لهذا السلوك الذي يغرقنا في التخلف أكثر فأكثر، واجب الإنكار الدائم، واجب التنبيه والتذكير الدائم لكل من يعنيهم الأمر، من باب قوله تعالى: {أليس منكم رجل رشيد}، فلعل رشداء قومنا ومسؤولينا تنفعهم وتحركهم أمثال هذه الشكاوي المرة المؤلمة…
أخبرني أحد المثقفين الغيورين عن حالة كانت قبل نحو من عشرين سنة. فقد تم إبلاغ المسؤولين في مدينته بزيارة ملكية مرتقبة، هي الأولى من نوعها لتلك المدينة المتواضعة المهمشة، وبدأ عامل المدينة يعد العدة لهذه الزيارة، وشكل عدة لجان، كان من بينها لجنة التزيين، ولجنة ثقافية. وكان محدثي ضمن هذه اللجنة الثقافية المسكينة، وبلغ إلى علمه أن لجنة التزيين قد رصد لها مبلغ خمسة ملايين درهم (أي خمسمائة مليون سنتيم)، تفاءل صاحبنا المثقف وتحمس، فذهب إلى السيد العامل يحمل إليه اقتراحا سعيدا ومشرفا، يكون من بين إنجازات اللجنة الثقافية بمناسبة الزيارة الميمونة. وهو أن تتم طباعة كتاب مخطوط ونفيس يوجد بالمدينة من تأليف أحد علمائها، ويتعلق بتاريخ الدولة العلوية الشريفة، وستشتغل اللجنة بالسرعة اللازمة ليكون الكتاب جاهزا ويقدم هدية لجلالة الملك عند زيارته.
رحب السيد العامل بالفكرة وهنأ صاحبها عليها. فلما انتقل الحديث إلى مسألة الطباعة والميزانية اللازمة لذلك، قال السيد العامل: للأسف ليس لدينا ميزانية لهذا الأمر. قال المثقف الغيور: خمسمائة مليون المخصصة للتزيين يمكن أن نأخذ منها مليونا واحدا نطبع به الكتاب، قال العامل: لا أستطيع، لا يمكن. ذهب الرجل وذهبت مبادرته…
وحدثني أحد أصدقاء المرحوم المجاهد الحاج أحمد معنينو، نقلا عنه، أن بعض المسؤولين بوزارة الثقافة اتصلوا به وأبلغوه أن الوزارة قررت تنظيم حفل تكريم له. فسألهم: ماذا سيكون في هذا التكريم، قالوا: سندعو حوالي خمسمائة من شخصيات المغرب في مهرجان حاشد تلقى فيه كلمات عن شخصيتك ومكانتك وجهادك الوطني… ثم يقام حفل عشاء… الخ. قال: كم سيكلف هذا الحفل؟.. فأخبروه. فقال، أنا عندي مذكرات في عدة أجزاء أقترح تكريمي بطباعتها بهذا المبلغ أو بجزء منه، فرفضوا ذلك وتمسكوا بالمهرجة والبهرجة ولا شيء سوى المهرجة والبهرجة، وكذلك كان.
أ.د / أحمد الريسوني