الدولة الدينية والدولة المدنية
من السجالات المحتدمة في سياق الربيع العربي، وفي سياق المد الإسلامي السياسي، السجال الدائر في عدد من الدول العربية حول مسألة “الدولة المدنية”، وهل يجب التنصيص عليها في الدساتير والوثائق التأسيسة لما بعد الثورة…
والسجال في مسألة الدولة المدنية، شبيه بالسجال في مسألة الديموقراطية. فالمسألتان متداخلتان من عدة وجوه.
ولكي لا نطيل الخوض فيما لا يلزمنا التطويل فيه ولا يجدي، أبادر إلى القول:
إن الإسلاميين المتحفظين على مصطلح “الدولة المدنية”، موافقون ومتفقون تماما على رفض ما يضاد الدولة المدنية، وخاصة الدولة الدينية الثيوقراطية، بكل مفاهيمها ونماذجها المعروفة في الثقافة المسيحية وفي التاريخ المسيحي الأوروبي. فالدولة التي يؤمن بها الإسلاميون بكل مدارسهم – بمن فيهم السلفيون المتحفظون على مصطلح “الدولة المدنية” – ليس لأحد فيها قداسة أو عصمة أو سلطة مطلقة، وليس فيها من يأتي إلى الحكم أو يمارسه بنَسب إلهي، أو بتفويض إلهي، وكل واحد فيها يؤخذ من كلامه ويُرَدُّ، كما قال الإمام مالك رحمه الله. وكل واحد فيها يحاسب ويؤاخذ على أفعاله في الدنيا كما في الآخرة.
ويؤكد كثير من العلماء والمفكرين المسلمين أن الدولة في الإسلام توصف بأنها دولة إسلامية، ولكن لا توصف بأنها دولة دينية، وأنها ليس فيها شيء من محاذير الدولة الدينية وصفاتها.
ولكن هذا التفريق الإجمالي لا يرفع تحفظات الآخرين وتخوفاتهم، فما هو موطن الخلاف وجوهره؟
يخشى المتحفظون من الإسلاميين أن يجر تبني مصطلح “الدولة المدنية” إلى استتباعات يقتضيها المفهوم الغربي العلماني للدولة المدنية، وتحديدا إمكانية الاعتراض على أي قرار أو قانون ذي مرجعية إسلامية، بحجة أننا في دولة مدنية لا دولة دينية.
ويخشى المتمسكون بالدولة المدنية، الرافضون لوصف الدولة الإسلامية، أن يفسح وصف الدولة بالإسلامية الطريقَ للإسلاميين لفرض كل ما يريدون باسم الإسلام وباسم الشريعة.
ومساهمة في تقريب الشقة وتضييق دائرة الخلاف بين الطرفين، أرى أن أوضح أمرين، أولهما موجه للإسلاميين، والآخر موجه للعلمانيين.
الأمر الأول: هو أن مسألة الألفاظ والمصطلحات لا ينبغي المبالغة في شأنها ولا الجمود في تفسيرها. بل فَهْمُ المقصود وضبطُ المعنى أولى من المماحكة في الألفاظ وخوض المعارك لأجلها. وكما يقول ابن القيم “الألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصلِ بها إلى معرفة مراد المتكلم”[1]. وحتى عن ألفاظ الشرع ومصطلحاته يقول: “والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول: ماذا أراد؟ واللفظيُّ يقول: ماذا قال؟”[2]
ونجد في صلح الحديبية درسا واضحا بليغا في هذا الباب، وذلك حينما اعترض مندوب قريش – سهيل بن عمرو – على بعض ما أملاه النبي صلى الله عليه وسلم من عبارات في وثيقة الصلح. ففي صحيح البخاري: (فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتبْ بيننا وبينكم كتابا. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بسم الله الرحمن الرحيم”، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب “باسمك اللهم”، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا “بسم الله الرحمن الرحيم”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب “باسمك اللهم”. ثم قال: “هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله…”، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله”[3]
وأما الأمر الثاني: فهو أن إصرار بعض السياسيين على إثبات وصف “المدنية”، لن يضيف لهم شيئا، ولن يقدم ولن يؤخر، ما دامت التفاصيل الدستورية والقانونية هي التي تحدد هياكل الدولة، وطرقَ تشكيلها، وتحدد صلاحيات كل سلطة وكل مسؤول فيها.
وإذا كان مقصود البعض في تمسكهم بوصف “الدولة المدنية”، هو منع إصدار قوانين وقرارات ذات مرجعية إسلامية، فوصف “الدولة المدنية”، لا يقتضي هذا المنع ولا يأذن به، خاصة إذا صدرت القوانين والقرارات بطريقة ديموقراطية عن الجهات ذات الصلاحية. فمنعُ إصدار قوانين إسلامية يحتاج إلى التنصيص عليه بصريح العبارة، أو وصفِ الدولة بأنها “دولة لادينية”، بدل التعلق بعبارة “دولة مدنية”.
والحقيقة أن من اعتماد لادينية الدولة، أو اعتماد بطلان القوانين ذات الصبغة الإسلامية، هو نسف لفكرة الديموقراطية من أولها إلى آخرها. ولذلك فهو شبه مستحيل في أي بلد مسلم.
والخلاصة أن معركة “الدولة المدنية” إنما هي معركة رمزية، وأما من الناحية العملية فلا طائل تحتها؛ لأن هذا الشعار المجمل المبهم سيحتاج حتما إلى تفسير وتفصيل، فتكون العبرة في النهاية بالتفاصيل والنصوص الدستورية والقانونية العملية.
[1] – أعلام الموقعين عن رب العالمين – (1 / 296)
[2] – أعلام الموقعين عن رب العالمين – (1 / 299)
[3] – صحيح البخاري – (3 / 195)