آفة داء الاستبداد الفكري….هل تتسرب إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين؟
آفة داء الاستبداد الفكري….هل تتسرب إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين؟
عبد الله الجباري
الأربعاء 20 أبريل 2022
عرفت الأقطار الإسلامية منذ عقود تجمعات علمائية قُطرية، كانت غالبها مثل الأساور في يد الحكام، يحركونها كما شاؤوا وأنى شاؤوا، وقبل عقد ونيف من الزمن، سطع نجم العلماء من لندن، حيث تأسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الإمام يوسف القرضاوي متعه الله بالصحة والعافية، وخلفه بعد مدة تلميذه الدكتور أحمد
وهذا التنظيم العلمائي كان له وما يزال الأثر على مستوى الإنتاج العلمي، وعلى مستوى الفعاليات العلمية، وعلى مستوى التأثير في الواقع، وليس هيأة محنطة هي إلى سكان وسكون القبور أقرب، وهذه الحركية والدينامية ليست بنت رئيس التنظيم فحسب، بل هي نتاج عمل جماعي مقبول في حده الأدنى، ومحتاج إلى التطوير مستقبلا.
وبما أن الاتحاد منظمة علمائية محتضنة لعلماء من مذاهب ومشارب ومدارس مختلفة، فإن عنصر قوته الأساس هو الحرية، وكلما كثر منسوب الحرية في التنظيم سطع نجمه، وكلما نقص منسوب الحرية خفت وبهت.
والحرية المشار إليها لا يمكن أن تفرز إلا الاختلاف، إذ ليس من شرط الانتساب إلى التنظيم الواحد ألا يسود بين أهله إلا الفكر الواحد، والرأي الواحد، والقول الواحد.
مواقف الريسوني
كانت للإمام القرضاوي منذ شبابه اجتهادات وآراء، وكان وهو في قريته يفتي أحيانا بخلاف المذهب، حتى كان أهل قريته يقولون عن بعض الفتاوى والآراء: هذا على مذهب الشيخ يوسف.
وعلى نهجه عرفنا الدكتور الريسوني، فهو من الناس الذين لا يؤمنون بالتحنيط الفكري، ويسهل عليه تغير أقواله إن ثبت له خطأها، أو إن تجاوزها فكريا، ومن ذلك أنه كان يقول بحد الردة، وينتصر له، وبعد مدة من الزمن غيّر رأيه، وتحلل من أقوال السابقين، وبنى لنفسه توجها خاصا. وهكذا في مواقف وآراء أخرى، مثل تصريحه بضرورة حذف مادة من القانون الجنائي تعاقب المفطرين في رمضان، وقبوله ببرنامج حكومي مغربي يدعم بعض أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وغيرها.
ولم يتبن هذه الآراء بعد رئاسته للاتحاد، بل تبنى بعضها قبل ذلك، وهذا منهجه، وهذه طريقته، ومن العسير جدا على الريسوني أن يسجن فكره في قوالب جاهزة تحت مسميات عتيقة.
سياسة الرفض
شخصٌ كهذا، وعالم من هذا الطراز، حري به أن يُشجع ويُحتضن من أعلى الجهات، الرسمية والشعبية، لأنه بفكره المتحرر؛ وبتضافر مع أمثاله؛ يعمل على تطوير المجتمع ويجتهد في انعتاقه من وهدة التقليد والركود والجمود.
لكن، بدل هذا الاحتضان والتشجيع، لا نجد إلا العكس، فنجد من يرفض أفكاره، وأحيانا من يشوهها ببترها عن سياقها، أو تحريفها، وذلك بهدف شيطنتها وشيطنة صاحبها، وقد صدرت هذه المواقف السلبية من جهات متعددة، لكنها اليوم، مع الأسف، تصدر عن أهل الاتحاد، وعلماء الاتحاد، وشيوخ الاتحاد.
تدوولت في الأيام الماضية رسالة/مقال للدكتور عطية عدلان، عبر فيها عن امتعاضه وحزنه من مواقف الريسوني التي لم يقَصّر في شيطنتها وتشويهها، وكال لها التهم جزافا، ويكفي أنه ادعى أنها مخالفة لثوابت الدين، وأنها تمعن في إدخال الشريعة تحت هيمنة الفكر الغربي، وغير ذلك من التهويلات/الاتهامات.
وقبل مناقشة الدكتور عدلان أو الرد عليه، نشير ابتداء إلى أحقيته في نقد الدكتور الريسوني نقدا علميا، ليستفيد منه المردود عليه أولا، ونستفيد منه ثانيا، أما رمي الكلام على عواهنه يمنة ويسرة، فلا يفيد أحدا، بل لا يدل إلا على ضيق صدر الرافضين للاجتهاد وأهله.
المدرسة المغاربية
عبّر الدكتور عدلان عن حزنه على بعض تصرفات الريسوني، ومنها أنه “يبسط جناحه الخاص ويظلل بعنايته الخاصة مدرسة مغاربية لا تفتأ تمخر في جسد الشريعة بما تثيره من قضايا تنتهي في مجملها إلى علمنة الإسلام وإرغامه على الدخول تحت هيمنة الفكر الغربي، وذلك كله باسم الدراسات المقاصدية وباسم التجديد”.
هكذا ميّز الدكتور عدلان بين مدرستين: مدرسة مشرقية مضمرة، تحافظ على الإسلام النقي السليم، ومدرسة مغاربية تعلمن الإسلام وتجعله تحت عباءة الغرب.
وبالتأمل في مضمون هذا الكلام وما يستبطنه، نجد الدكتور عدلان يمارس البتر السياقي، لأن ما سماه مدرسة مغاربية ليست سوى امتداد لمدرسة مشرقية، كان روادها الأوائل محمد عبده ورشيد رضا ومحمود شلتوت ومصطفى المراغي وعبد المتعال الصعيدي وعبد الوهاب النجار، وغير ذلك من الأعلام.
ومن راجع منشورات هؤلاء ومكتوباتهم وجد منشورات هؤلاء المغاربيين لا تحيد عن مقرراتهم، فعلى أي أساس ميز بين المدرسة المغاربية وغيرها؟ ألم يكتب العلماء عن هؤلاء المشارقة كما يكتب هو الآن عن هؤلاء المغاربيين؟ ألم يكن عبد المتعال الصعيدي وهو العالم الأزهري موصوما بالإلحاد؟
لا أرى أساسا للتمييز إلا التسرع في الكلام، أو الغمز من قناة الريسوني/المغربي، وتحريض الجسم المشرقي في الاتحاد عليه.
الاختلاف مع الريسوني
ليستقيم تحريض الدكتور عدلان، بيّن “خطورة” و”جسامة” ما وقع فيه الريسوني الآن، فبيّن أنه سبق أن اختلف معه، إلا أن اختلافه السابق أهون من الاختلاف الحالي، لأن الاختلاف السابق كان مندرجا فيما يجوز الاختلاف حوله، أما الاختلاف مع الريسوني الآن، فاختلاف نابع من رغبة أكيدة في الدفاع عن الدين الذي خرق ثوابته، لأن مواقفه (الصادرة عنه في ندوة شارك فيها الدكتور سعد الدين العثماني) ليست مرفوضة فقط، بل “تمس بثوابت منهج أهل السنة، وتمس ثوابت العمل الإسلامي، والصحوة الإسلامية التي ينتمي إليها أغلب المنتسبين لهذا الاتحاد المبارك، وتعدّ خرقا واضحا لثوابت الدين الإسلامي”.
سنقف مليا مع عبارات هذا الاقتباس، لنبين بجلاء أن صاحبه كتبه تحت وطأة حالة غضبية، ولم يكتبه وهو في نقاش علمي رصين.
أولا: هبْ أن الرجل خالف ثوابت منهج أهل السنة، فأين المشكلة؟
هل أهل السنة وحدهم من يحتضن العصمة والصواب؟ ألا يوجد الصواب في غيرهم؟
ثم، من هم أهل السنة؟ ألا يقصر الوهابية “أهل السنة” عليهم دون سواهم؟ وألم يقصر مؤتمر غروزني “أهل السنة” على غيرهم فقط؟ فأيُّ “أهل السنة” خالفهم الريسوني هنا؟
وأخيرا، أليس عطية عدلان هو من يخالف منهج أهل السنة حين يحرض على الريسوني ويدعو أعضاء الاتحاد إلى فرملة أقواله والتحكم فيها؟ أليس هذا عينه هو منهج المعتزلة الذين كانوا يفرضون على العلماء القول بخلق القرآن؟ فمَن الذي خالف منهج أهل السنة الآن؟
ثانيا: ذكر د. عطية عدلان أن د. الريسوني يمس ثوابت العمل الإسلامي والصحوة الإسلامية.
طيب، ثم ماذا؟ هل هذا كلام علمي؟ هل نجد في مدونات أصول الفقه أنه لا يجوز للعالم أن يخالف ثوابت العمل الإسلامي وثوابت الصحوة الإسلامية؟ وما مدلول “العمل الإسلامي”؟ وما مفهوم “الصحوة الإسلامية”؟، وكيف نفهم أن العالم خالف شيئا دون أن نعرف ماصدق ذلك الشيء؟
وأخيرا، هناك علماء كبار، لا علاقة لهم بالصحوة الإسلامية والعمل الإسلامي اللذين يدندن حولهما الدكتور عطية، فهل نسحب منهم صفة العالمية؟ أم نحجر عليهم ونرفض إنتاجهم العلمي بدعوى مخالفاتهم للصحوة والعمل؟
ثالثا: تضمنت الفقرة السالفة كارثة من الكوارث، وبائقة من البوائق، وهي زعْم عطية عدلان أن الريسوني خرق خرقا واضحا (وليس غير واضح) ثوابت الدين الإسلامي.
أتدري ما معنى خرق ثوابت الدين؟
أليس خرق ثوابت الدين كفرا؟
أليس نسبة الغير إلى ذلك الخرق يعد تكفيرا؟
هنا ندرك خطورة بعض الحماسيين الذين يملكون الحقيقة ويحتكرون المطلق، وندرك خطورة إطلاق اللسان دون فرامل أصولية وعقدية ومنهجية.
من التحريض المبطن إلى التحريض الصريح
بعدما نسب عدلان إلى الريسوني ما لم يقله، وجه كلامه إلى أعضاء الاتحاد العالمي ليبين الهوة السحيقة بين الاتحاد ورئيسه، وأن الرئيس يغرد شاردا، فقال: “فهل هذا هو ما يدين به الاتحاد وأعضاؤه؟ وهل هذا توجه عام في الاتحاد؟”، وطرح احتمالين لأجوبة الأعضاء:
الاحتمال الأول: موافقة الأعضاء للرئيس، وهذا ما استبعده وحصّنه بعبارة “لا سمح الله”.
الاحتمال الثاني: رفْض الأعضاء للرئيس وآرائه التي تخرق ثوابت الدين، وسمح لنفسه أن يتكلم باسم الأعضاء، فقال عن هذا الاحتمال: “وأظنها كذلك إن شاء الله”، بمعنى أنه يستعمل كل الأسلحة اللغوية لاستمالة الأعضاء إلى صفه.
وبعد أن بين رجحان مواقف الأعضاء إلى أطروحته، انتقل إلى التحريض مباشرة، فقال: “فما الموقف الذي اتخذه الاتحاد من رئيسه؟”.
هنا يدعو بصراحة إلى ضرورة اتخاذ موقف من رئيس الاتحاد العالمي، وأن الأعضاء ليسوا مدعوين للاجتماع ومناقشة رأي الرئيس، بل الموقف عندهم جاهز، فقد قدمه لهم السيد عطية مؤصَّلا.
وإذا لم يتخذ الأعضاء من رئيسهم موقفا صارما، فإنه ينتقل معهم إلى الموقف البديل، وهو ضرورة إلجام الريسوني وفرملة لسانه، وذلك بكفّه عن التصريح، وهذا منطوق كلام خاتمة مقال السيد عدلان: “لا يكفي أن أقوم بالرد عليه، وإنما يستلزم الأمر عرض الموضوع على الهيأة لاتخاذ قرار: إما بتأييد قوله وإعلان هذا مذهبا للاتحاد، فيعرف الناس أين يذهبون وراء هذا الاتحاد، وإما أن يَكُفّوا الشيخ الذي يترأس الاتحاد عن تلك التصريحات المزعجة”.
وتأمل عبارة “يكفّوا”، وهي عبارة نحتها السيد عدلان من محبرةٍ ستالينية كان حريا به أن ينأى بنفسه عنها.
ولنا أن نتساءل، ألا يحق لرئيس هيأة ما أن يقول قولا، ويتبنى رأيا، إلا إن قال به الأعضاء؟ أبهذا الفكر نحدِث التغيير ونقود الأمة؟
إجماع كاذب
نظم منتدى الريسوني للحوار العلمي ندوة حول نصوص وآيات القتال، وشارك فيها الدكتور سعد الدين العثماني، وبيّن في عرضه أن الجهاد في الإسلام هو جهاد الدفع، أو الدفاع، وليس جهاد الطلب، وكان الدكتور الريسوني حاضرا، فأعلن موافقته لما ذهب إليه العثماني.
هذا الموقف هو الذي جعل الدكتور عدلان يغضب غضبته المضرية، وينتفض في وجه الريسوني بمقاله/رسالته التحريضية، حيث ادعى أن كلام العثماني مخالف لإجماع العلماء.
وهذا إجماع وهمي، أو إجماع كاذب حسب عبارة الإمام أحمد، ومن العلماء متقدمين ومتأخرين ومعاصرين من يقول بقول العثماني والريسوني، بل قولهما هو قول الجمهور، وما يدافع عنه عطية عدلان قول شاذ، مخالف لمحكمات القرآن وكلياته، ومنها “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها”، ومنها “لا إكراه في الدين”، كما أن قولهما هو الذي انتصر له غير واحد من العلماء، ومنهم أستاذ الجيل مولانا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله.
وبمناقشة بسيطة لموضوع الجهاد، فإن المقرر عند علمائنا أن المرأة والشيخ الفاني والزمنى والمنقطعين في الصوامع والصبيان لا يقتلون، وهذا هو الرأي المتوافق مع جهاد الدفع، لأنه لم يشرع إلا للدفاع عن الأمة ضد المعتدي، ولو كان جهادا للطلب، لجعلناه عاما في جهاد الكافر أيا كان، لأن العلة هي الكفر، وهذا لم يقل به سوى الشافعي في أحد قوليه، لذا قال بقتل كل الأصناف المذكورين كما بينه ابن رشد في بدايته، وهذا مخالف لتعاليم الإسلام وإن قال به الإمام المطلبي عليه الرضا والرضوان.
وهنا أنقل نصا لعلامة كبير، وفقيه شهير، هو العلامة علال الفاسي، خريج القرويين، قال رحمه الله: “جاء الإسلام وفي الدنيا أنواع من الحروب، فحرّم الحرب في سبيل المال، وحرم الحرب لأسر الناس واستعبادهم، وحرم الحرب لمجرد إظهار الشجاعة والاستعلاء، وحرم الحرب لأن تكون أمة هي أربى من أمة، وهي الحرب التوسعية، ولم يترك مباحا إلا حرب الدفاع، حينما يهدد أمن العقيدة، أي إذا تجرأ العدو على محاولة إكراه المسلمين على الكفر، ومنع المسلمين من نشر دينهم وبث تعاليمه، فحينئذ يجوز لهم أن يقاتلوا للذب عن حرية العقيدة”، وقال في موضع آخر: “جاء الإسلام بتشريع يفرض السلام، ويبيح بقدر الضرورة استعمال الوسائل الدفاعية … وكل حرب هجومية كيفما كان نوعها على جماعة مسالمةٍ ممنوعةٌ، والحرب التي تريد إكراه جماعة أو ملة على الخروج من دينها أو نظامها ممنوعةٌ، وإنما يبقى مباحا وبصفة مؤقتة؛ أي مدة الأمد الضروري لإقرار السلم؛ القتالُ لاستبعاد الفتنة في العقيدة ومنع اضطهاد المؤمنين وإكراههم على الخروج من دينهم، فهؤلاء وحدهم الذين أذن الله لهم أن يقاتلوا بأنهم ظلموا، ووعدهم بالنصر، وفرض عليهم الاستعداد إرهابا للذين يريدون اضطهادهم، وحرصا على أن يكون ذلك الإرهاب مانعا أعداءهم من الاعتداء عليهم”، وقد عبر علال الفاسي في مرات متعددة أن “الجهاد ضرورة تقدر بقدرها”، وأنه “بمثابة أكل الميتة الذي يباح لمن اضطر إليه، لا يجوز له أن يتجاوز به قدر الشبع والاطمئنان على النفس من الموت”.
هذه نظرة علال الفاسي، فهل كان يخرق ثوابت الدين أيضا؟ أم أن كلامه مرفوض بدعوى انتسابه إلى مدرسة مغاربية؟
وإذا كان كذلك، فما علينا إلا التوجه صوب المشرق لنقرأ نصوص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في الموضوع، وأن المسالمين لا يجوز قتالهم، وقد أوردها الدكتور الريسوني في رسالته “مقصد السلام في شريعة الإسلام”.
وإذا كان الدكتور الريسوني وعلال الفاسي وابن تيمية وابن القيم يخرقون ثوابت الإسلام، فما على السيد عطية إلا أن يراجع مفاهيمه، وأن يتراجع عن منهج المعتزلة في دعوة الأعضاء أن “يكُفّوا” رئيسهم عن التصريح والتعبير، وأن يستغفر ربه من انخراطه في التحريض والتأليب.الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
المصدر: banassa.com