مقالات فكرية

العمل العلمي جهاد، وأصلُ كل جهاد..

العمل العلمي جهاد، وأصلُ كل جهاد..


أحمد الريسوني


العمل العلمي: قد يكون طلبا وتحصيلا للعلم، وقد يكون بذلا له وتمكينا للغير منه. وهو في الحالتين جهاد. بل هو أفضل الجهاد وأصل كل جهاد..
قال الإمام الحنفي أبو بكر الجصاص في تفسير قوله تعالى {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: 44]:
“فإن قيل: فأي الجهادَين أفضل: أجهادُ النفس والمال، أم جهاد العلم؟ قيل له: الجهاد بالسيف مبني على جهاد العلم وفرع عليه؛ لأنه غير جائز أن يتعدوا في جهاد السيف ما يوجبه العلم. فجهاد العلم أصل، وجهاد النفس فرع، والأصلُ أولى بالتفضيل عن الفرع”.
والعمل العلمي إنما يكون جهادا حين يكون عملا علميا واقعيا، يعبّد الطرقات وينيرها، ويقارع الشبهات ويزيلها. وحسب التعبير النبوي، فالعلم المعتبر شرعا هو ما كان علما ينتفع به. ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ).
أما ما يكون لمجرد الشهادات والمرتبات، فتلك حرفة من الحرف. وكما قال علال الفاسي في بائيته الشهيرة:
وكنت أرى تحت العمائم حاجةً فما هي إلا أن يدوم المُرَتَّبُ
ولكن من فضل الله سبحانه على أهل العلم وطلابه: أن جعل الجهاد العلمي اليوم – وفي غالب أحواله – ميسرا، ليس فيه ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ.. وهو رغم ذلك لا يقل أجرا عن الجهاد بالنفس والمال، وقد يكون أعظم نفعا وأعظم أجرا، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].. وكلٌّ ميسر لما خُلق له.
وقد ذكر الإمام الشاطبي أن للعلم مقصدا أصليا هو المطلوب شرعا، وأن له مقصدا تابعا يخدم المقصد الأصلي.. والمقاصد التبعية، أو العرَضية، للعم، هي جوائز معجلة للعلماء، من دون أن يقصدوها أو يسعَوا إليها..
قال رحمه الله: “وأما التابع؛ فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا، وإن لم يكن في أصله كذلك، وأن الجاهل دنيء، وإن كان في أصله شريفا، وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار وحكمه ماض على الخلق، وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين، إذ قام لهم مقام النبي؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر، … إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة، والمنازل الرفيعة؛ فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا، كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وإن كان صاحبه يناله…”.
[من الكلمة الافتتاحية للدكتور أحمد الريسوني، في اجتماع الهيئة العلمية لمركز المقاصد للدراسات والبحوث، يوم 15/7/2023]

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى