مقالات فقهية

أهمية الشورى بين النصوص الشرعية والاحتياجات العملية

أهمية الشورى بين النصوص الشرعية والاحتياجات العملية

 

في البدء كانت الشورى

اعتاد العلماء والكتاب، حين يتحدثون عن الشورى وأدلتها الشرعية أن يركزوا على الآيتين الكريمتين من سورتي الشورى وآل عمران. وهما فعلا آيتان مركزيتان في الموضوع، سآتي ـ بعون الله تعالى ـ على ذكرهما وبيانهما، إلا أنني أجعلهما المنتهى وليس المبتدى.

وأبدأ من قوله سبحانه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)  ([1])

ذهب العلامة محمد الطاهر ابن عاشور إلى ملحظ لطيف واستنباط طريف، وهو أن هذه المحاورة تنطوي على نوع من المشاورة، مشاورة أريد لها أن تكون في بدء الخليقة، لتكون هديا ملازما لبني آدم منذ الخلق الأول. قال رحمه الله:  “وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم، تكريما لهم، فيكون تعليما في قالب تكريم… وليسُنَّ الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دق وخفي من حكمة خلق آدم. كذا ذكر المفسرون.

وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر، حتى تكون ناموساً أُشربته نفوس ذريته، لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما، تؤْثر تآلفا بين ذلك الكائن وبين المقارن.” ([2])

وإذا بنينا على رأي ابن عاشور وغيره من المفسرين الذين أشار إليهم، فإن الشورى هي أول سنة اجتماعية سنها الله لخلقه ولعباده ليقتدوا بها ويهتدوا بهُداها. كما يستفاد من هذه النازلة أن الشورى مسنونة حتى في القضايا المحسومة والمعروفة، على أساس أن هذا النوع من أنواع الشورى له مقاصده وفوائده المذكورة ـ أو المذكور بعضها – في كلام ابن عاشور، ومنها التعليم والتكريم، ثم الحث على التأسي والتأدب.

 ويمكن أن ندرج في هذا الباب مشاورة ابراهيم لولده ـ عليهما السلام ـ في قوله تعالى:  فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) ([3])، فالمسألة محسومة معزومة، ومع ذلك يقول إبراهيم لولده:  يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى، فيجيب الولد يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ([4]).

      قال الطرطوشي رحمه الله:  “ولا يمنعك عزمك عن إنفاذ رأيك وظهور صوابه لك عن الاستشارة. ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام أُمر بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها، فحمله حسن الأدب وعلمه بموقعه في النفوس على الاستشارة فيه، فقال لابنه  {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ([5])

وبمثل هذا قال القاضي بدر الدين بن جماعة:  “وما زالت المشاورة من عادات الأنبياء، حتى إن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أُمِر بذبح ولده عزمة، ومع ذلك لم يدع مشاورته ، مع صباه. ” ([6])

إن من يعتاد المشاورة حتى فيما هو واضح وجلي لا يمكن أن يتنكبها فيما هو غامض وخفي، فكون الشورى مسنونة ومحمودة ومفيدة في قضايا قطعية ومحسومة، إنما هو إيذان بمدى ضرورتها ولزومها وأولويتها فيما تتعدد فيه الوجوه والإشكالات وتتضارب فيه الأنظار والاحتمالات.

على أن مشاروة إبراهيم لولده تقودني إلى نموذج آخر من الشورى العائلية المذكورة في القرآن، وذلك في قوله عز وجل: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) ([7])

في الآية الثانية جاء ذكر الشورى صريحا )عن تراض منهما وتشاور(، وفي الآية الأولى جاء ضمنياً )إذا تراضوا بينهم بالمعروف(. وفي الحالتين لا يقع التراضي الحقيقي إلا بعد تحاور وتشاور، وعلى أساس من المعروف، بما يعنيه من خير وإصلاح، وتعقل وإنصاف.

في الآية الأولى، إذا وقع التفاهم والتراضي بين الزوجين المطلقين من أجل التراجع والمراجعة، واستئناف علاقتهما الزوجية، فلا يجوز للولي أن يمنع ذلك.

وفي الآية الثانية، أن الرضاع المحدد في حولين كاملين يمكن تخفيض مدته، لكن على أن يتم الفطام بتشاور وتراض، لا أن يستبد به أحد الأبوين. وهذا يعني أن تدبير أمر الأولاد هو حق وواجب مشترك بين الوالدين، وأنه يجب أن يتم بالتراضي والتشاور، لاختيار أفضل ما يصلح للولد وينفعه، مما هو ممكن.

فكون المرأة هي التي تمارس الإرضاع، لا يخولها التفرد بقرار توقيفه أو تمديده. وكذلك الزوج، باعتباره صاحب القوامة والنفقة، لا يحق له الاستبداد بأمر أولاده. فالأم شريكة له في تدبير شؤونهم، فلا بد أن يكون ذلك كله ناشئا (عن تراض منهما وتشاور)، أو عن “ائتمار” كما عبرت آية أخرى:  {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)} ([8])

قال ابن كثير”…(فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) أي:  فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك.

فيؤخد منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر. قاله الثوري و غيره.

وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما، كما قال في سورة الطلاق: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى }(2)

وعلى هذا، فالقرارات المتعلقة بتعليم الأبناء الصغار، من حيث مكانه ونوعه ومدته، واستمراره وانقطاعه، أو المتعلقة بصحتهم، وبإقامتهم وسفرهم، وسائر أنشطتهم، ما يقبل منها وما لا يقبل، وما يشجع منها وما لا يشجع، وكذلك المتعلقة بتوجيههم المهني أو بتزويجهم إذا كانوا متوقفين على التوجيه والمساعدة من آبائهم وأمهاتهم…، كل هذا وغيره يحتاج إلى تدبير شوري مشترك بين الوالدين، أو بينهما وبين الولد نفسه إذا أصبح له تمييز وفهم ونظر. وتستحسن مشاورة الصغار أنفسهم،لأجل تعليمهم وتدريبهم وتأديبهم بأدب المشاورة.

وقد جاءت الأحاديث النبوية حاثة على استئمار البنات في شأن زواجهن. والأحاديث في ذلك كثيرة، منها عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ قال:  نعم تستأمر. (2)

ففي الزواج والتزويج شورى، وفي تدبير شؤون الأسرة والأبناء شورى، وفي حال التنازع والخصام شورى. ألا ترى إلى قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) ([9]). فها هنا أمر ضمني بالشورى، فما دام هناك حكمان اثنان، فلا يمكن أن يكون تقدير الحالة واعتماد الحل الممكن إلا شورى وائتمارا بينهما، ثم اتفاقا وتراضيا على الحل والمخرج.

وكما تكون الشورى عند الزواج، فإنها تكون كذلك قبل الطلاق، وعند التفكير في الطلاق. وهذا ما سنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأزواجه، ومن ثم لأمته. فعن عائشة رضي الله عنها، في قصة الإفك، قالت: “ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب وأسامة بن زيد -حين استلبث الوحي- يستشيرهما في فراق أهله…”([10])

وكذلك حث زوجاته على مشاورة آبائهن وأمهاتهن، حين وقعت بينه وبينهن جفوة، لكثرة ما كن يحرجنه به من طلبات النفقة، فأنزل الله في ذلك: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)  ([11])

فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر على نسائه، وخيرهن بما نصت عليه الآيتان، وبدأ بعائشة رضي الله عنها… وقال لها:  “فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك…” ([12])، وفي رواية أخرى:  “أحب أن لا تعجلي حتى تستشيري أبويك… فقالت:  أفيك يارسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة…” ([13])

يتبع..


([1]) سورة البقرة، 30-32.

(1) التحرير والتنوير 400/1.

([3] ) سورة الصافات، 102.

([4] ) سورة الصافات، 102.

([5] ) سراج الملوك، ص 132. ولنا عودة إلى هذا المقال قريبا إن شاء الله.

([6])تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، ص 169.

([7]) سورة البقرة 232 ـ 233.

([8]) سورة الطلاق، 6

([9]) سورة النساء، 35

([10]) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث الإفك.

([11])  سورة الأحزاب، 28ـ 29

([12]) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الأحزاب

([13]) صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب أن تخيير المرأة لا يكون طلاقا إلا بالنية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى