أبحاث أصولية

أهل الشورى بين العموم والخصوص

أهل الشورى بين العموم والخصوص

بناءً على التصورات المضيِّقة لمكانة الشورى، ولوظائفها ومجالاتها، وقد سبق بيانها والرد عليها، اتجه التأويل والتطبيق إلى التضييق أيضا لدائرة المعنيين بالشورى. حتى حكى غير واحد أن قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) إنما المقصود به أبو بكر وعمر. قال الحافظ ابن حجر: “ونقل السهيلي عن ابن عباس أن المشاورة مختصة بأبي بكر وعمر”. قال الحافظ: “ثم وجدت له مستندا في (فضائل الصحابة) لأسد بن موسى، و(المعرفة) ليعقوب بن سفيان، بسند لا بأس به… أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا…” ( )، ثم عقب بقوله “لكن لاحجة فيه للتخصيص” ( )، أي ليس في هذه الرواية حجة لتخصيص أبي بكر وعمر بمشاورة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما القاضي ابن العربي، فقد كان حاسما في هذه المسألة حين قال: “المراد بقوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ جميع أصحابه.” ( )

ثم ذكر قول من قال “المراد به أبو بكر وعمر” ورده بقوله “ولعمر الله إنهم أهل لذلك وأحق به، ولكن لا يقصر ذلك عليهم، فقصره عليهم دعوى. وقد ثبت في السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: “أشيروا علي في المنزل…” ( )

والحقيقة أنه لو لم يكن عندنا إلا هذا المثال الذي ذكره ابن العربي لكان كافيا أولا لإبطال دعوى خصوصية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وثانيا لإثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير عامة الصحابة. بمعنى أن مشوراته صلى الله عليه وسلم ليست منحصرة لا في أبي بكر وعمر، ولا في صحابة آخرين معهما، بل كانت لجميع أصحابه كما قال القاضي.

فقد استشار صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى من أصحابه، تارة يستشيرهم من فوق المنبر، فيخاطب المئات، وتارة يستشير من حضره في مجلسه أو سفره. كما كان يستشيرهم مثنى وفرادى، أو ثلاث ورباع. وما أكثر الروايات التي جاء فيها قوله عليه السلام “أشيروا علي أيها الناس” أو ما في معناها من صيغ العموم، وهي مشورات معروفة في كتب الحديث والسيرة النبوية. وبعضها مذكور في ثنايا هذا البحث، فلا داعي للتكرار والإطالة.

ثم إن أصل العموم في الشورى هو ما تفيده الآيتان الكريمتان: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ  وأمرهم شورى بينهم.

سياق الآية الأولى ـ للتذكيرـ هو: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.

فالذي لا يمكن الاختلاف فيه بحال، هو أن الذين أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم، هم أنفسهم المذكورون في الآية كلها من أولها إلى آخرها. فهم الذين َلانَ لهم برحمة من الله، ولولا ذلك لانفضوا من حوله، وهم الذين أمره الله أن يعفو عنهم ويستغفر لهم. فالضمير واحد ومتعلقه واحد. فهو يعود على الصحابة، وعلى جماعة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما يقال في هذه الآية يقال في الآية الأخرى. فالذين وصفوا بأن أمرهم شورى بينهم، هم أنفسهم الذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وعلى ربهم يتوكلون، وهم الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله. فلا معنى لأن تكون بعض هذه الجُمل عامة في جماعة المؤمنين، وبعضها لفلان وفلان، أو لبعض منهم دون بعض. وكل عامٍّ فهو على عمومه حتى يثبت التخصيص بدليله وفي حدوده.

الرجل والمرأة في الشورى سواء

وقد يكون من نافلة القول، التنصيص على دخول النساء مع الرجال في هذا العموم، وأن موقع النساء في خطاب الشورى لا يختلف في شيء عن خطاب الرجال. بل إن هذا هو الأصل المعول عليه في كل خطاب شرعي، وفي كل عموم شرعي، إلا ما استثني بدليله الخاص.

وقد كان من الممكن الاستغناء عن تناول هذه المسألة، لولا أن عدداً من الناس ما زالوا ينكرون دخول المرأة في الشورى العامة، أو يترددون فيه، استنادا إلى تراكم تاريخي، وإلى رؤية متأولة متعسفة لبعض النصوص والمفاهيم الشرعية.

وأول ما يحتاج إلى التذكير به وتثبيته، هو أن خطابات الشرع وتكاليفه تشمل الرجال والنساء، حتى لو جاءت بضمير المذكر، مفردا أو جمعا. كما أنها تشمل الرجال بجميع فئاتهم والنساء بجميع فئاتهن. وأنه لا خصوصية لأحد ـ بالإثبات أو النفي ـ إلا بدليل. فهذه مسألة مسلمة متبعة عند جماهير العلماء، بغض النظر عن الجدل النظري عند بعض المتكلمين.

ولعل أحسن من تناول هذه المسألة وحسمها هو الإمام ابن حزم الظاهري.( ) ومما قاله رحمه الله: “فلما كانت لفظة “افعلوا” والجمع بالواو والنون، وجمع التكسير، يقع على الذكور والإناث معا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الرجال والنساء بعثا مستويا، وكان خطاب نبيه صلى الله صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء خطاباً واحداً، لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء إلا بنص جلي أو إجماع.” ( )

وقد ناقش اعتراضات المعترضين، حتى الافتراضية منها، مثل: “فإن قال: فأوجبوا عليهن النفار للدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قلنا وبالله تعالى التوفيق: نعم، هذا واجب عليهن كوجوبه على الرجال…” ( )

وانتهى إلى القول الحاسم: “قد تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال، وأن الشريعة التي هي الإسلام، لازمة لهن كلزومها للرجال، إلا ما خصهن أو خص الرجال منهن دليل. وكل هذا يوجب أن لا ينفرد الرجال دونهن بشيء قد صح اشتراك الجميع فيه، إلا بنص أو إجماع.” ( )

ومما يشهد لكلام ابن حزم، حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل، قال: “لا غسل عليه”، فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك، أعليها غسل؟ قال: نعم، إنما النساء شقائق الرجال.” ( )

قال الخطابي في شرحه للحديث: “وفيه من الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، وأن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا للنساء، إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها. ” ( )

وعند حديث حذيفة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم “فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.” ( ) نقل ابن حجر في شرحه للحديث قول ابن أبي جمرة “خص الرجلَ بالذكر لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم.” ( )

ولو لم يكن عندنا إلا هذه النصوص والقواعد العامة لكانت كافية في اعتبار المساواة بين الرجال والنساء في حق الشورى، عامة كانت أو خاصة، فكيف ونحن نجد مشاورات عديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصحابته، للنساء خاصة في بعض الأحوال، أو للرجال والنساء معاً في أحوال أخرى. ولعل أشهر ما في الباب، مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وهي مشاورة تاريخية، بالنظر إلى الأزمة الخطيرة التي جاء حلها وتجاوزها بفضل تلك المشاورة المباركة. وكان ذلك بعد صلح الحديبية الذي لم يستسغه عموم الصحابة، بل رأوا فيه تنازلاً وانهزاماً مهيناً لهم ولدينهم أمام مشركي قريش. فلما كتب الصلح، وأمر رسول الله أصحابه بأن يتحللوا من إحرامهم، وأن ينحروا هداياهم ويحلقوا رؤوسهم، لم يستجب لذلك أحد من الصحابة. وكرر ذلك عليهم مرارا فلم يفعلوا. ففي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه” … فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله لأصحابه: “قوموا فانحروا ثم احلقوا” قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحربُدْنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى  كاد بعضهم يقتل بعضاً، غماً…” ( )

ومن المشورات النسائية المباركة، ما جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار ـ أو رجل ـ: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم. فجعلوا له منبراً…” ( )

وقول الراوي “امرأة من الأنصار، أو رجل” هذا الشك يرتفع ولا يبقى له أثر بناء على رواية أخرى في الصحيح، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كلف امرأة كان لها غلام نجار بصنع المنبر ( )…، ولذلك ذهب الحافظ ابن حجر إلى أن المعتمد هو أن امرأة هي التي أشارت بفكرة المنبر( )، وهي التي تكفلت بصنعه وإحضاره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذهب الإمام النووي ـ جمعاً بين الروايات ـ إلى أن “المرأة عرضت هذا أولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم يطلب تنجيز ذلك.” ( ) وهذا لا يعني انفراد هذه المرأة بهذا الاقتراح الذي كلِّفت بتنفيذه، فقد صحت الرواية أن صحابة آخرين رأوا هذا الرأي، منهم تميم الداري، وقد تقدم خبره.

ومما قصه علينا القرآن الكريم: حالة المرأة وهي تستشير غيرها، وحالة المرأة وهي تشير على غيرها. وكل ذلك في سياق التنويه والإقرار والرضى.

فأما الحالة الأولى، ففي قوله تعالى عن ملكة سبأ  قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)  ( )

وأما الحالة الثانية فقـول إحدى المرأتين الأختين لأبيهــا، عن موسى عليه الســلام: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)( ) وقد نجم عن هذه المشورة السديدة خير كثير…

على أن مما يتمسك به المعترضون على عضوية المرأة في مجالس الشورى العامة (البرلمانات)، كون المرأة لا يجوز لها تحمل الولايات العامة، وهذه المجالس اليوم تضطلع بالولاية في شؤون الدولة والمجتمع. وهذا النظر غير صحيح ـ أو على الأقل غير مسلم ـ لا في شقه الأول ولا في شقه الثاني.

فأما أن المرأة لا يجوز لها أن تتحمل أي ولاية عامة، فهذا لا سند له بهذا العموم، وبهذا الإطلاق. وقصارى ما يمكن التعلق به حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: “لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملَّكوا ابنة كسرى، قال: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”. ( )

وواضح هنا أن الكلام عمن ملكوا عليهم امرأة، وولوها أمرهم، أي رئاسة دولتهم، حيث تترأس كل ما فيها، وليس فوقها أحد. والفلاح المنفي هنا إنما هو الفلاح السلطوي، السياسي والعسكري. بحيث تصبح الدولة عرضة للتفكك والضعف والهزيمة، بسبب ضعف المرأة في مثل هذا المقام، وضعف انقياد الناس لها. أما الفلاح بمعناه الإسلامي، فغير حاصل لهم سواء ولوا أمرهم رجلا أو امرأة.

وعلى كل حال فالحديث ـ بالنظر إلى سياقه وسبب وروده ـ يتناول الرئاسة السياسية والعسكرية للدولة، أي رئاسة ما يسمى اليوم “السلطة التنفيذية”. ولا شك أن المرأة عموما، تضعف في هذا المقام الخطير والثقيل.

أما مجالس الشورى فهي مجالس رأي وفكر، ومجالس تحليل وتقويم، ومجالس اجتهادات وقرارات نظرية، أيا كان موضوعها ومجالها. فإذا أراد أحد أن يصف مثل هذه المجالس بأنها ولاية عامة، أو سلطة عامة، فلا مشاحة في الاصطلاح، لكن على أساس أن لا نخلط بينها وبين الولاية التنفيذية والسلطة الحقيقية، التي لا يمكن تصور أدائها والنجاح فيها دون مشقة بالغة، ودون شدة وصرامة وصبر وحزم، وحنكة ودهاء، ومدافعة وصراع، في الداخل والخارج…

ومن جهة أخرى فإن مجالس الشورى تتكون عادة من أفراد كثيرين. فالعضو الواحد ـ رجلا كان أو امرأة ـ لا يتحمل ولاية وليس له سلطة بمفرده. وإنما الولاية والسلطة للمجلس برمته. فلو فرضنا مجلسا يتكون من مائة عضو، فالمرأة الواحدة لا تمثل ولا تتحمل إلا جزءا من مائة. فأما الولاية العامة المتحفظ عليها ـ أو على بعض صورها ـ في الفقه الإسلامي، فهي الولاية الكاملة، في حق المرأة الواحدة، المنفردة في توليها، وليس مجرد عضوية مجلس يتكون من عشرات أو مئات من الأعضاء، ولا يمارس إلا وظيفة اجتهادية تشريعية، ووظيفة تكميلية تقويمية للسلطة الفعلية.

ويرى العلامة الأستاذ علال الفاسي أن الآية الكريمة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)( )، قد أثبتت “الولاية المطلقة للمؤمنات كما أثبتتها للمؤمنين، وتدخل فيها ولاية النصرة، كما يدخل فيها الحضور في المساجد والمشاهد، ومعارك الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

ثم يضيف رحمه الله “وقد نص القرآن على التشاور بين الرجل وزوجته في شؤون الزوجيــة فقال: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا( ). وإذا كانت الشورى مطلوبة لهذا الحد في أمر الأسرة، فما بالك بأمر الأسرة الكبرى، وهي الأمة والدولة. وكما أن الشارع لم يحرم نصف الأسرة ـ الذي هو المرأة ـ من حق التشاور، فلا معنى لأن يحرم نصف الأمة ـ الذي هو المرأة ـ من حق الشورى.” ( )

وأما قول الإمام الجليل إمام الحرمين: “فما نعلمه قطعا أن النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة”( ) وقوله “والنسوان لازماتٌ خدورَهن مفوِّضاتٌ أمورَهن إلى الرجال القوامين عليهن، لا يَعْتَدْنَ ممارسة الأحوال، ولا يبرزن في مصادمة الخطوب بروز الرجال. وهن قليلات الغَناء فيما يتعلق بإبرام العزائم والآراء…” ( ) فإن أريد به وصف الأمر الواقع وتقرير الحال الغالب آنذاك، فهو صحيح أو قريب من الصحة، وأما إن أريد به النفي المطلق أو المنع الشرعي، فغير مسلم. وحسبنا أن امرأتين شاركتا في إبرام بيعة العقبة الثانية التي قامت دولة الإسلام على أساسها، وهما أم عمارة نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي ( ). وسيأتي في بيعة عثمان أن عبد الرحمان بن عوف استشار حتى “النساء المخدرات في حجابهن.”

الشورى الخاصة

إذا ثبت أن خطاب الشورى في النصوص الشرعية، هو في الأصل خطاب عام يتعلق بجميع المسلمين ممن يعنيهم ويتعلق بهم الأمر المتشاور بشأنه، وأمرهم شورى بينهم، فإن هذا لا يمنع من إمكان انحصار الشورى في بعض دون بعض، سواء بقصد أو بدون قصد. والعمومات الشرعية معظمها تدخله تخصيصات واستثناءات بأدلتها وحيثياتها. ثم إن الشورى بصفة خاصة، هي مما يقبل النيابة والوكالة. وهي في بعض حالاتها تكون من التكاليف الكفائية التي يؤديها الناس بعضهم عنه بعض، فإذا تحققت الكفاية وحصل المقصود، فلا موجب للمزيد. وهذا هو الشأن في فروض الكفاية كلها، فهي في الأصل خطاب للعموم وتكليف للعموم، لكن إذا حصلت الكفاية، وتحقق المطلوب ببعض ذلك العموم، سقط التكليف عن غيرهم إلا أن يطوَّعوا.

كما أن الشورى في بعض الحالات وفي بعض القضايا لا يصلح لها ولا يجدي فيها إلا ناس معينون بصفات معينة ومستويات معينة، فلا مكان فيها لجمهور الناس أصلاً.

فكل هذه أسباب تنقل الشورى ـ في كثير من الحالات ـ من العموم إلى الخصوص.

المهم عندي هو تقرير أن الشورى في الأصل عامة لجميع المسلمين، ثم ترد الاستثناءات والتخصيصات بأسبابها وأدلتها، وتقدر بقدرها.

فحين تتحقق الكفاية، ويتحصل مقصود الشورى، فلا لزوم للاستمرار في الشورى وفي توسيع دائرتها. فإنما الأمور بمقاصدها. فمتى تحققت هذه المقاصد على أتم وجوهها المرجوة والممكنة، فالاستمرار في التشاورقد يصبح أقرب إلى العبث. بل الذي يتعين حينئذ هو حسم المسألة والانتقال إلى العمل والتطبيق، كما قال تعالى (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله).

كما أن لتقليص الشورى وقصرها على بعض الناس دون بقيتهم، سبباً آخر، هو التعذر أو المشقة الفادحة والكلفة الكبيرة. فحين تكون الجماعة المعنية بـ”الأمر”، هي الأمة كلها، أو قطر من أقطارها، أو عدد كبير من الناس، من المتعذر أو المتعسر اجتماعهم وتشاورهم، لا كلهم ولا أكثرهم، ولا فئة كبيرة منهم، فحينئذ يصار إلى الممكن والمتيسر، ويقوم من حضر مقام من لم يحضر، طبقا للصيغة المتعارف عليها عندهم أو المتفق عليها بينهم…، ومن هنا جاءت فكرة النيابة والتمثيل النيابي…

وهناك سبب ثالث يقتضي التقليص والتخصيص لأهل الشورى، وهو وجود قضايا تخصيصية، لا علم بها ولا رأي فيها إلا لذوي الأهلية لها والاختصاص فيها، كالقضايا العلمية، الشرعية وغير الشرعية، والقضاء، والتدبير الصناعي والاقتصادي، والعسكري… ومعلوم أن تطور الحياة يتجه دوما نحو مزيد من التشعب، والتمايز والاختصاص، العلمي والعملي.

وإذا كانت الشورى تعني تداول الرأي والعلم والخبرة ووجوه التقدير والتدبير، وليس مجرد تداول الكلام والنقاش، والأفكار العامة، أو الاقتراحات التخمينية، والحلول الجزافية، فهذا يعني أن عددا كبيرا ومتزايدا من قضايا الشورى سيكون خاصا بأهله، وسيكون إشراك عامة الناس فيه من قبيل فساد الوضع، ومن قبيل توسيد الأمور لغير أهلها. وهذا خروج عن الحكمة التي نزلت بها الشريعة وعن المصلحة التي جاءت لأجلها.

 كما أن هذا يعني كذلك أنه ليس هناك مستشارون، أو هيئات شورية، يصلح أعضاؤها بالضرورة لكل شيء، ويستشارون في كل أمر. فهذا إن صلح قديما، فإنه اليوم ـ وقبل اليوم ـ لم يعد ممكنا ولا ملائماً. بل حتى في القديم اتجه كثير من علمائنا إلى تنويع المستشارين وتصنيفهم، حسب تخصصاتهم وخبراتهم، كما يظهر ذلك جليا في هذا النموذج من كلام الفقيه المالكي ابن خويز منداد، حيث يقول: “واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكُتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها.” ( )

وأصل هذه المسألة منصوص عليه في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ( )، وقوله سبحانه:وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83).( )

فهذه الآيات تبين أن هناك قضايا ونوازل يكون المرجع فيها أهل العلم والدراية بها، وأهل الاختصاص فيها والقائمون عليها، فهم الذين يسألون عنها ويستشارون أو يتشاورون فيها.

على أن هذه الوجوه التي تحتم أن تكون الشورى ـ في حالات كثيرة ومتنوعة ـ عملا خاصاً محصوراً في فئات موصوفة أو معينة، لا تلغي الأصل الذي سبق ذكره، وهو عموم الشورى. ومعنى هذا ومقتضاه، أن الشورى تعمم ـ بدرجات وبأشكال غير محددة ـ كلما كان ذلك متيسراً ومفيداً ومناسباً.

وقد يتخذ تعميم الشورى، أشكالاً كالتي كان يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يخاطب جموع الحاضرين ـ عامتهم وخاصتهم ـ ويقول: “أشيروا علي أيها الناس…” ومثل ذلك جرى من الخلفاء الراشدين. وقد يتخذ أشكالا أكثر استيعابا وتنظيما، كالذي يقع اليوم في الانتخابات العامة، والاستشارات الشعبية العامة، واستطلاعات الرأي العام، الملزمة وغير الملزمة. كما يمكن إجراء شورى عامة شاملة على صعيد المجموعات المحدودة من الناس، كذوي قضية خاصة بهم، مثل سكان قرية، أو حي، أو رواد مسجد، وكأصحاب حرفة، أو عمال مصنع أو شركة، وكطلبة مؤسسة جامعية… فكل هؤلاء، إذا كانت لهم مشاكل وقضايا تجمعهم، فهي في الأصل (شورى بينهم)، وكلهم له حق الشورى في تدبيرها، ويمكن أن يتشاوروا فيها جميعهم أو أكثر ما يمكن منهم، ما دام ذلك متيسراً، وبالقدر المتيسر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى