أبحاث أصولية

نحو إعادة البناء واستكمال البناء في قضايا الشورى

نحو إعادة البناء واستكمال البناء

(في قضايا الشورى)

لقد ظهر من خلال الفصول السابقة أن هناك عدة مواطن للخلل والنقص في فهم قضايا الشورى وفي إقامتها والعمل بها.

وإذا كان الاجتهاد الإسلامي الحديث قد خصص للشورى حيزاً واسعاً من عنايته ودراساته، وأنتج مئات الأبحاث والمؤلفات، عن الشورى وقضاياها، مما أسهم في إعادة الاعتبار للشورى، وفي السير نحو بناء نظام الشورى، فإن الحاجة ما زالت قائمة لمزيد من الإسهامات في تأسيس البناء واستكمال البناء، فضلاً عن الحاجة إلى التطبيقات العملية في كثير من المجالات.

إن إعادة الاعتبار للشورى، وبناء قضايا الشورى وقواعدها على نحو متكامل فعال، واستكمال ما يلزم من ذلك من أجل مواجهة التطورات ومتطلباتها، كل ذلك يجد أسسه المرجعية ومادته البنائية في الرصيد النظري والتطبيقي للمرحلة التأسيسية (النبوة والخلافة الراشدة)، وفي قواعد الشرع ومقاصده، وفي النظم والخطط التي عمل بها المسلمون عبر تاريخهم، وفي مختلف دولهم.

ونقطة الانطلاق في تأسيس الشورى، هو النظر إليها على أنها دين ووحي وشرع من الله تعالى. فهي جزء من الشريعة، بل قاعدة كبرى من قواعدها. فتطبيقها تطبيق للشريعة، وتعطيلها هو تعطيل للشريعة.

ثم هي بعد ذلك الأداة الرئيسية ـ بعد الوحي ـ لتحقيق الهداية والسداد والرشاد، في التصرفات الفردية والجماعية، فالمسلمون يهتدون ويترشدون بالوحي أولاً، وبالشورى ثانياً، وفي ثناياهما وبعدهما أو معهما، يأتي مطلق العلم والعقل، وتأتي التجربة والاجتهاد.

وسواء تعلق الأمر بمقتضيات الوحي أو بمقتضيات الشورى فيما ليس وحياً، فإن المؤمنين موصوفون بأنهم يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ([1])، تماما مثلما هم موصوفون بأنهم وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) ([2])

فالشورى في حقيقتها ليست سوى استماع القول واتباع أحسنه، والمتشاورون لا يفعلون سوى أنهم {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.

ثم حينما يتعلق الأمر بما هو مشترك، وبما فيه حق الغير، فإن هذا يكون سببا آخر للزوم الشورى، مع أصحاب الأمر وأصحاب الحق، أو من يقوم مقامهم، وخاصة فيما يعود عليهم بآثاره وتبعاته.

وإنما يحق لأحدنا أن يتصرف بمفرده، فيما يملكه بمفرده ولا شريك له فيه.

ومن هنا كان الله تعالى وحده هو الذي {لا معقب لحكمه} {ولا يشرك فيحكمه أحدا}([3])، فكما ليس له شريك في الخلق والملك، فليس له شريك في الحكم والأمر. فهو وحده الذي يدبر الأمر وحده،{  ٍيُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} ([4]) {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا }([5]). أما غيره فلا بد لهم أن يدبروا أمورهم مع بعضهم، بالتشاور والتفاهم والتعاون.

ومن يصر على تدبير أمور الناس وحده وبمفرده، ويرفض الإشراك في ذلك ، فهو يميل نحوالإشراك بالله ، لأنه يريد أن يضفي على نفسه صفة ليست إلا لله سبحانه، وهذا نوع من الإشراك . ففي الإسلام ، لا مكان للإشراك ولا الاشتراك مع الله سبحانه. ولكن لا بد من الإشراك والاشتراك بين الناس. والشورى هي نوع من الإشراك والاشتراك، في التفكير والتدبير والتسيير، فهذا من حقوق الناس بعضهم على بعض عامة، ومن حقوق الناس على ولاة أمورهم خاصة، قبل أن يتولوا، وبعد أن يتولوا.

ونتذكر هنا تلك الغضبة العمرية التي تقدم ذكرها، وفيها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه أن قائلاً يقول “لو قد مات عمر، لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت” فغضب عمر، ثم قال: “إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم” إلى أن قال “من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا.” ([6])

فواضح هنا أن مشاورة المسلمين في أمورهم العامة ومصالحهم المشتركة، هو حق لهم لا يجوز غصبه منهم.

وإذا كان إشراك الناس أو من يقوم مقامهم، في الشورى وفي تدبير أمورهم، هو حق من حقوقهم، فلا شك أن غصبهم هذا الحق، وإسقاطه وتعطيله هو ظلم لهم. وهذا الظلم يتفاقم ويتفاحش بعدد أصحاب الحق، وبقدر استمرار هذا الغصب وسيئ آثاره المتراكمة: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}.([7])

يقول العلامة عبد الرحمان بن خلدون “ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب، كما في المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران…”([8])

ولا شك أن عمر رضي الله عنه كان ناظرا إلى هذه الآثار الوخيمة حينما شدد وهدد، حتى لوح بالقتل لمن يغصبون الناس أمورهم ويسقطون مشورتهم.

وقد نبه الكواكبي على ما يخلفه تعطيل الشورى من أضرار ومفاسد، ليس على صعيد الدولة والتدبير السياسي فحسب، بل على جميع الأصعدة، بما فيها الفردية والعائلية، يقول على لسان أحد حكمائه المفترضين “هكذا عند التدقيق في كل فرع من الدولة الإسلامية، بل في ترجمة كل فرد من الملوك والأمراء، بل في حال كل ذي عائلة، أو كل إنسان فرد، نجد أن الصلاح والفساد دائرين مع سنة الشورى،أو الاستقلال في الرأي” ([9])، أي أن الصلاح قرين الشورى، والفساد قرين التفرد بالرأي.

لقد آن الأوان، وقد خسرنا من تعطيل الشورى، ما لا يحصيه إلا الله، أن ننظر إلى الشورى وضرورتها وقيمتها على هذا الأساس، وعلى أنها المصدر الثاني لهداية الناس ورشدهم وصلاح أمورهم، بعد الوحي. وعلى أنها حق من حقوق المسلمين، وأن غصبه وتعطيله هو من أعظم المظالم والمفاسد التي حاقت بالمسلمين، وأن تصحيح هذا الوضع وإعادة الشورى إلى نصابها هو أحد الشروط الضرورية وأحد المسالك الأساسية لكل إصلاح ونهوض ديني ودنيوي.

نحو تنظيم الشورى ومأسستها.

لو أمكننا أن نتحدث عن “تاريخ الشورى عند المسلمين”، لوجدنا أن أكبر ثغرة في هذا التاريخ هي أن الشورى لم يقم لها نظام مفصل ومحدد في أي مرحلة من تاريخ المسلمين وفي أي دولة من دولهم، إلا ما قد يكون عابراً واستثنائياً ومحدوداً. ولم تقم لها مؤسسات قارة، كما قامت مؤسسات أخرى للإمارة والإدارة، وللزكاة وللوقف، وللحسبة والأسواق، وللقضاء والمظالم، وللشرطة والأمن، وللعلم والتعليم.

وبهذا بقيت الشورى عرضة لجميع الاحتمالات: تكون أو لا تكون، تكون كثيراً أو قليلاً، تكون في هذا المجال أو ذاك، تكون في هذه القضية أو تلك، أو لا تكون. تكون مرة في اليوم أو مرة في العام أو مرة في العمر. تكون مع هذا الشخص أو ذاك، أو مع هذا الصنف أو ذاك، تكون مع المخالف أو تُقصر على الموافق، يؤخذ برأي المستشارين أو لا يؤخذ…

بعبارة مختصرة: لقد بقيت الشورى في مهب الريح. فلماذا لم يقم للشورى نظام مفصل ولا مؤسسة قارة؟

أما العصر الأول فقد بينت أن ذلك لم يكن مطلوباً ولم يكن ملائماً لطبيعة المرحلة كلها. وكان فيه من البداهة والبساطة ومن الصدق والثقة، ما يجعل الشورى قائمة منتظمة وفعالة، ولو بدون نظام محدد ومؤسسة متخصصة.

وحتى بعض البوادر والخطوات التنظيمية التي جرى العمل بها أيام الخلفاء الراشدين، وكانت تنم عن التوجه العام نحو الضبط والتنظيم، لم تتم المحافظة عليها ولا تنمتها. فأبو بكر كان لا يمضي اجتهاداً في المسائل الجديدة حتى يجمع لذلك رؤوس الناس، وكذلك كان يفعل عمر. وفي زمن عمر بدأت تتحدد الهيأة الشورية وأعضاؤها، فكان مستشارو عمر هم “القراء”، أهل العلم، كما جاء في صحيح البخاري “وكان القراء أصحابَ مشورة عمر، كهولاً كانوا أو شباناً.”([10])

كما أن عمر عين هيئة شورية بأسماء محددة لانتخاب خليفة له.

 وعثمان كان لا يقضي في شيء مما يرفع إليه إلا بما يشير به مستشاروه الذين يجلسهم معه في مجلس قضائه.

لقد كان السير الطبيعي للأمور هو أن تتلاحق وتتراكم مثل هذه الخطوات التنظيمية لكي تعطي نظاماً لممارسة الشورى على مختلف الأصعدة العامة، وفي مقدمتها الصعيد السياسي.

وكان من المفروض أن يتصدى العلماء ـ وخاصة منهم الفقهاء ـ للاجتهاد والإفتاء بما يحفظ إقامة الشورى وسلامة ممارستها، خاصة وأنهم في حل من طموحات الحكام وحساباتهم وأولوياتهم.

إن الفراغ التنظيمي والفقهي، في مسألة إدارة الشورى، وإدارة الاختلافات السياسية، قد شكل على الدوام سبباً لتحكيم منطق القوة والغلبة، بكل ما يعنيه ذلك من فتن وصراعات وتصفيات دموية. وقد وردت أحاديث وآثار صحيحة كانت تقتضي المبادرة إلى وضع قواعد مضبوطة ومتعارف عليها لفض النزاعات وتجاوزها وصد الفتن وتجنبها، بدل السقوط فيها ومعالجتها بالسيوف.

فقد أخرج الإمام مسلم من حديث عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم، سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.” ([11])

فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أنه سأل الله تعالى أن ينجي أمته من الجفاف المهلك الذي لا يبقي ولا يذر، وكذلك من الطوفان المغرق الذي يمكن أن يفنيها، فأجابه سبحانه إلى هذين الأمرين. فلا خوف على الأمة من الهلاك بقحط أو طوفان، ويحصل منهما ما فيه أضرار عابرة أو جزئية، لكنها لا تكون عامة ولا مهلكة.

وسأله كذلك أن يجنب المسلمين صراعاتهم الداخلية ويضمن لهم السلامة منها، فلم يستجب لطلبه هذا؟!

فما الذي نتفقهه ونستفيده من حكمة الله في هذه المسألة، ومن حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإخبار بها؟

نلاحظ أن الطلبين الأول والثاني يتعلقان بأسباب قدرية صرفة ليس للأمة مسؤولية فيها، وليست من كسبها ولا من صنع يدها، ولا يمكن أن يدفعها ويقي من هلاكها إلا قدر الله تعالى.

وأما الطلب الثاني فمتعلق بعمل الناس واجتراحهم. واجتنابه أو علاجه بأيديهم. وقد أرشدهم إلى أسباب الأخوة والوحدة وحذرهم من أسباب العداوة والفرقة. فلن يكون بأسهم بينهم إلا بمخالفة أحكام دينهم وتفريطهم فيما فرض عليهم. فليس أمامهم إلا أن يحلوا مشاكلهم الناجمة عن أفعالهم بأنفسهم، وأن يحتاطوا ويسدوا أبواب الفتن والصراعات، وإلا فليتحملوا نتائج الإخلال والتفريط، ونتائج التعدي لحدود الله.

ونحن نعلم أن الشرع لم يضع سياجا واحدا فقط ضد تصارع المسلمين واقتتالهم، بل وضع سياجات كثيرة ومحصنة. فمن صانوها صانتهم، ومن تجاوزوها، أو تساهلوا في تجاوزها، كان عليهم وزر ذلك وتبعاته {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ([12])

ومن التحصينات الإسلامية ضد التصارع والتفرق والفتنة، أن فرض على المسلمين أن يكون )أمرهم شورى بينهم(، والشورى تفضي إلى تحكيم الشرع، وتحكيم العقل، وتحكيم المنطق، وتحكيم المصلحة. الشورى حوار وتفاهم وتوافق، حيث يأخذ كل ذي حق حقه، والشورى استدلال واحتجاج وإقناع. وفي الجهة الأخرى يوجد الاستبداد والأنانية والمغالبة بكل وسائلها، من مكر وسيف وبأس وتآمر…

 وقوله صلى الله عليه وسلم: “وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها”، ليس معناه أن “بأسهم بينهم” مفروض عليهم، ولا محيد عنه ولا مخرج منه. بل معناه فقط أن هذا الطلب غير مجاب وغير مضمون لهم، وأنه متروك لتصرفهم وتدبيرهم وسلوكهم. وأن عليهم أن يحتاطوا لأنفسهم بأنفسهم.

ومن الاحتياطات التي يلزم تحقيقها تجنبا للفتن والصراعات، اعتماد الشورى، وتنظيم إدارة الشورى، وتنظيم الشورى في مواطن النزاع ومظان الصراع، بصفة خاصة. وفي هذا المعنى يقول العلامة الفقيه محمد الحجوي الثعالبي: “ولعدم الشورى المنظمة في الإسلام وقع ما وقع من الفتن والحروب بعد عمر، ليقضي الله أمره. ولا أزال أقول: إنه كان يجول في فكر عمر شيء من ذلك، بدليل تنظيمه لمجلس شورى الخلافة…” ([13])

وفي صحيح مسلم أيضا ـ وصحيح البخاري كذلك ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل بعض الصحابة عن حديث الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال له حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “يا أمير المؤمنين، لا بأس عليك منها، إن بينك وبينها بابا مغلقا. قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: لا بل يكسر. قال ذلك أحرى أن لا يغلق.” ([14])

فنحن أمام إخبار نبوي عن فتنة آتية، تموج كموج البحر. وأن هذه الفتنة دونها باب مغلق إلى حين. وأنها ستدخل على المسلمين عند زوال ذلك الباب. وهنا يسأل عمر، بحنكته و بصيرته وبعد نظره: “أفيكسر الباب أم يفتح؟” فيأتي جواب حذيفة “لا بل يكسر”، فيقول عمر “ذلك أحرى أن لا يغلق.”

فالباب المغلق إذا تم فتحه بكيفية طبيعية، يمكن إعادة غلقه بكيفية طبيعية. ولكن إذا كسر وحطم، بقي مشرعا، على الأقل إلى حين، أي إلى أن يعاد الباب إلى وضعه السوي وإلى إغلاقه المعتاد.و أما إن كان كسره وتحطيمه نتيجة تنازع وصراع ،فإنه لا يتأتى إصلاحه وإعادته إلا بعد إنهاء الصراع والنزاع ومعالجة أسبابهما.

وقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قوله: “إنما قال ذلك (أي عمر) لأن العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح، فأما إذا انكسر فلا يتصور غلقه حتى يجبر.” ([15])

فهذه هي الفتنة التي تموج كموج البحر، سببها الاحتكام إلى منطق القوة والغلبة، حيث ينكسر باب المشروعية وتنخرم قواعدها، فتتدفق الفتن تموج كموج البحر…

والمخرج هو إعادة بناء الأبواب، وإغلاقها في وجه الفتن وأصحاب الفتن. فحين تكون عندنا أبواب وتكون عندنا مداخل ومخارج، ويكون عندنا حراس وبوابون، وعندنا مفاتيح، لكل باب مفتاحه، ويكون عندنا قواعد (أو قوانين) للدخول والخروج، والفتح والإغلاق، حينئذ لا خوف من الفتن، حتى لو أطلت أو تسللت أو تسربت.

إن هذا بعض ما أعنيه بتنظيم الشورى ومَأْسَسَة الشورى وتنظيم إدارة الشورى. أي لا بد من مؤسسات للشورى، ولا بد من قوانين تنظيمية للشورى. وهنا تَرِدُ بعض التساؤلات والاستشكالات، لا بد من ذكرها والجواب عليها، وهي:

إذا كان تنظيم ممارسة الشورى أمرا ضروريا وحيويا فلماذا لم يضعه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد شيء منه لا في كتاب ولا سنة؟

وإذا كان الشرع لم يضع تنظيما معينا لممارسة الشورى، فلماذا نفعل ما لم نؤمر ونلتزم ما لم نُلزم؟ ولماذا التضييق والتحجير؟ لماذا لا نترك الأمر عفويا، أو على التخيير لولاة الأمور؟

فأما أن الإسلام لم يضع لنا نظاما معينا ومحددا لممارسة الشورى، فلأن هذا شأنه وحكمته مع الجوانب التنظيمية في كافة المجالات المتحركة والمتغيرة. فهو قد أمر بالعلم والتعلم والتعليم، ولم يضع لذلك تنظيماً محدداً. وهو قد أمر بالحكم والقضاء وبين الناس، وأن يكون ذلك بالعدل وبما أنزل الله، ولكنه لم يضع لنا نظاماً قضائياً. وأمر بالجهاد، ولم يضع لنا تنظيما لذلك. وكلفنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يفرض نظاما أو طريقة مفصلة لذلك. وحث على الوقف والتحبيس ولم يرسم لنا نظاما لتسيير الأوقاف المتراكمة عبر العصور.

فالإجراءات والقوانين والوسائل التنظيمية، هي بمثابة الملابس، ضرورية ولا غنى عنها، ولكنها تفصَّل بحسب الأجسام وتفاوتها في الأحجام، وبحسب أعراف المكان والزمان، وبحسب أحوال الطقس من برد وحر واعتدال، وبحسب حالة الجسم من صحة واعتلال،وبحسب طبيعة الأعمال والممارسات المختلفة…

والذي أقوله وأكرره وأتأسف له، هو أن المسلمين، قد نظموا وطوروا نظمهم، لكافة الجوانب والوظائف الشرعية، الدينية والدنيوية، باستثناء الشورى، فقد تم تجميدها وإهمالها شكلا ومضمونا.

ولتوضيح المسألة أكثر، أضع أمام أنظارنا نموذجا واحدا للوظائف والتكاليف الشرعية التي أخذت ما يلزم من التنظيم والتقنين والمَأسسة، وهو العلم والتعليم، للمقارنة مع الشورى ومآلها.

ففي العلم والتعليم ـ كما في الشورى ـ وردت آيات وأحاديث تحث وترغب وتأمر وتشجع. ثم في الأمرين معاً نجد ممارسة تطبيقية نبوية، تتسم بكامل الجدية والفاعلية، ولكنها أيضاً تتسم ـ من حيث تنظيمها ـ بالبساطة والعفوية والمرونة. ولم يختلف الأمر كثيرا على عهد الخلفاء الراشدين.

لكنْ بعد ذلك، دخلت المسألة العلمية والتعليمية في مسار متواصل من التنظيم والضبط والمأسسة والتوسيع والتفريع. حتى انتهى الأمر سريعا إلى المدارس والجامعات النظامية، ذات البنيات الإدارية، والبنايات العمرانية، والموارد المالية، فضلا عن نظمها التعليمية، بموادها وبرامجها ومستوياتها وأساليبها. وأصبحنا أمام مدارس وجامعات، أهلية لا تعد ولا تحصى، ورسمية حكومية لا تعد ولا تحصى.

وكل هذه النظم والمؤسسات، والمناهج والتخصصات، المراتب والإجازات، والموارد والميزانيات، لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أمر بها. ومع ذلك بادر إليها المسلمون، وتنافس فيها العلماء والأمراء، والأغنياء والفقراء. ولولا ذلك لبقيت الحركة العلمية ضئيلة وبدائية، ولما أمكنها الاستجابة للمتطلبات والتحديات الجديدة للمجتمعات الإسلامية، وللدعوة الإسلامية، وللدولة الإسلامية. ولبقيت هي نفسها عرضة للتلاشي والاندثار على نحو ما حصل، أو كاد يحصل، للشورى.

وهذه الأعمال والتدابير التنظيمية والتنفيذية هي كلها من قبيل الوسائل، التي لا يتوقف نموها وتطورها وملاءمتها. وهي من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به.

فهي تابعة لمقاصدها ووظائفها، وهي في خدمتها وعلى قدر حاجاتها ومطالبها التنفيذية.

وإذا كانت هذه التدابير التنظيمية ليس لها وضع شرعي محدد، وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها على وجه التفصيل والتعيين، فإن الشرع قد تضمن عددا من القواعد العامة، الحاكمة والموجهة في كل مجال وفي كل وظيفة شرعية. وقد مر بنا ـ وخاصة في الفصل الثاني بمباحثه الثلاثة ـ عدد من المبادئ والقواعد المؤسِّسة والهادية للممارسة الشورية، وهي مستوحاة من القرآن والسنة، ومن التجربة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.

وإذا كنا اليوم نسعى للاستدراك وقضاء الفوائت، ونعمل لإعادة بناء الشورى تأصيلاً وتنفيذاً، فلا بد أن نستدعي لذلك قواعدنا التأصيلية والأصولية، ونبني عليها كل ما يمكن بناؤه.

وأقف قليلاً مع بعض هذه الأصول والقواعد، المعتمدة في التشريع الإسلامي، بعضها معروف ومصرح به، وبعضها معمول به ضمنياً.

1ـ تحدث للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من فجور

هذه القاعدة وإن كانت بهذه الصيغة منسوبة للخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإنها قاعدة معمول بها قبله وبعده عند الفقهاء والولاة والقضاة. ومدلولها هو أنه كلما جدَّت في المجتمع مشاكل وآفات وانحرافات، فيجب مواجهتها بأحكام وتشريعات وتدابير ملائمة لها، وكفيلة باحتوائها وإصلاحها أو ردعها.

وهذه القاعدة يوجد أصلها في قوله صلى الله عليه وسلم “لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكنَّ اليمين على المدعَى عليه.”

هذه رواية مسلم في أول كتاب الأقضية من صحيحه. وأضاف النووي في شرح مسلم: “وجاء في رواية البيهقي وغيره بإسناد حسن أو صحيح زيادة عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر”، قال الإمام النووي “وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع.” ([16])

والاستدلال بالحديث فيما نحن بصدده، هو أنه لولا ما يتعمده الناس من الدعاوي الكاذبة، لكان الأصل هو أن من ادعى شيئاً صُدِّق فيه ومُكِّن منه. ولكن نظراً لكثرة الادعاءات الباطلة كان لا بد من البينة، مع أن اشتراط البينة وعدم التمكن من إقامتها أحياناً، قد يؤدي إلى ضياع حق المدعي الصادق. وهذا سببه فساد الناس وعدم بقائهم على الصدق. فقد أحدثت للناس البينة، بسبب دعاويهم الكاذبة.

وعلى هذا النهج، قرر الصحابة تضمين الصُّنَّاع، خلافاً لما كان عليه الأمر، وخلافاً لأصل البراءة والأمانة.

فقد أُلزم الصناعُ بضمان ما ضاع بأيديهم حتى ولو كان بغير فعلهم، وذلك بعد أن ظهر أن بعضهم يستغلون تصديقهم والثقة بهم للاستيلاء على ما سلِّم لهم لتصنيعه، مدَّعين أنه قد ضاع أو سرق منهم… وأيضا لو عرفوا أنهم لا يضمنون، فإنهم يتهاونون في الحفظ والصيانة. فأحدث لهم التضمين لما أحدثوه ـ أو أحدثه بعضهم ـ من خيانة وإهمال، ولولا ذلك لم يكن عليهم ضمان.

وإذا انتقلنا بهذه القاعدة إلى موضوع الشورى، فإن أفضل مثال أبدأ به هو ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه حين بلغه أن هناك من يتحين فرصة وفاته ليبادر إلى بيعة من يريد ويضع المسلمين أمام الأمر الواقع. وأمام هذا التطلع الخطير لم يكتف عمر بالبيان والتحذير، ولا بالحكم ببطلان هذه البيعة إذا تمت بغير مشورة من المسلمين، بل هدد بالقتل لمن يبادر إليها ولمن يقبلها لنفسه. وهذا حكم لا وجود له ولا نظير له في الكتاب ولا في السنة. ومع ذلك لم ينكره أحد من الصحابة على عمر، ولم يعترض عليه ـ فيما أعلم ـ أحد من العلماء إلى الآن.

فما سند هذا الحكم من عمر؟ إنها هذه القاعدة الجليلة “تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور“. وأي فجور أكبر من هذا التهور والاستخفاف والتلاعب بحق الأمة ومصيرها؟ فهذا أمر لا بد فيه من حكم رادع مكافئ.

ومن هذا الباب أيضا لجوء عمر ـ وقد تعرض لاغتيال مفاجئ ـ إلى حسم النزاع المحتمل حول مسألة الخلافة، فقام بإسناد الأمر إلى أشخاص معينين وقلائل، ولهم من الصفات والمؤهلات ما لا يقبل الطعن أو التشكيك. لقد سد باب الفتنة بسرعة وبمهارة وحكمة بالغة، مع ما في ذلك من إقامة الشورى ومراعاة الرأي العام بشكل لا غبار عليه.

ومن هذا الباب كذلك، ما ذهب إليه ابن عطية وحكاه من غيره من العلماء ـ وقد تقدم نص كلامه ـ من أن من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. فهذا الحكم بالوجوب لا وجود له في كتاب ولا سنة، وإنما اقتضاه وحتم القول به استبداد المستبدين ونبذهم للشورى، مع ما ينجم عن ذلك من طغيان وفساد وأضرار جسيمة على الدولة وعلى الأمة.

ولقد كان واضحاً أن ما حققه الإسلام والمسلمون من فتوحات على جميع الأصعدة، لم يكن بلا ثمن، فقد سبب اختلالاً ونقصاناً في بعض النواحي النوعية في الحياة الإسلامية للدولة والمجتمع. لقد وقعت الزيادة الكمية في كل شيء، في عدد المسلمين، وفي قوتهم، وفي أموالهم، وفي معارفهم وخبراتهم، وفي امتداداتهم العرقية والجغرافية… ولكن أصابهم نقص في تدينهم وأخلاقهم. ولقد حصل هذا “النقص في الراعي والرعية” معاً، كما يقول ابن تيمية.([17])

وقد لوحظت بداية هذا النقص منذ أواخر زمن الخلفاء الراشدين. فقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “يا أمير المؤمنين، كيف اختلف الناس على عثمان وعليك، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ فقال: رعية أبي بكر كانت مثلي ومثل عثمان وسعد وعبد الرحمان. أما رعية عثمان ورعيتي أشباهك.” ([18])

لقد أصبح الصحابة، وحتى من تربوا وتتلمذوا على أيديهم من التابعين، أقلية داخل بحر المسلمين الجدد، في جزيرة العرب، والشام، والعراق، ومصر، وبلاد فارس، وشمال إفريقية، وغيرها. ومن هذا البحر الجديد خرج قاتل عمر، وقتلة عثمان، وقاتل علي. ومن هذا البحر تشكلت عوامل الفتنة وجنودها ووقودها.

ولا أنكر أن جهوداً جبارة بذلت لاستيعاب الوضع الجديد وهضمه والسيطرة عليه وعلى آثاره؛ جهود دعوية وتربوية وتعليمية وفكرية وسياسية وعسكرية وإدارية…

ولكن في هذا الخضم ضاعت الشورى وتوارى منطقها. فلا حوفظ لها على المكتسبات السابقة، ولا نظمت وأحكمت للإسهام في تأطير الوضع الجديد وفق قاعدتنا وقواعد تشريعية أخرى.

والعبرة التي نأخذها ليومنا وغدنا، هي أن كل تطور في الناس وحياتهم ومجتمعهم، وخاصة التطور السلبي، يحتاج إلى الاجتهاد المناسب والأحكام الملائمة، وفق الأدلة الشرعية، ووفق قواعد التشريع ومقاصده. ولا علينا، بل يجب علينا، أن نتخذ من التدابير ومن التنظيمات ومن المؤسسات، كل ما يحفظ على المسلمين دينهم ومصالحهم، وما يمنع أو يدفع الفتن والانحرافات عنهم.

2ـ قاعدة سد الذرائع

بين هذه القاعدة وسابقتها تشابه وتداخل، أو بلغة الأصوليين، بينهما عموم وخصوص. فهذه أخص من الأولى، ذلك أنها إنما تتعلق بالحالات التي يتخذ فيها ما هو مشروع ذريعةً إلى ما هو ممنوع. بمعنى أن ماهو مشروع، وما هو مباح، يستعمل لغير ما وضع له ولغير ما قُصد به. ويستعمل المباح لتحقيق ما ليس بمباح، أو أن يفضي المباح فعلا إلى ضرر وفساد محقق، حتى ولو كان ذلك بغير قصد، ولكن بسوء استعمال وسوء تنزيل.

فإذا وقع هذا، هنا يتدخل التشريع الإسلامي، ويستعمل هذه القاعدة “سد الذرائع“، فيحكم بمنع ذلك الأمر المشروع في أصله، ويوقف العمل بمشروعيته، حتى ينصلح استعماله ويصح مآله.

ولا أريد الدخول في بحث أصولي لهذه المسألة، ولا حشد أدلتها وأمثلتها من الكتاب والسنة، فذلك أمر قد تكفل به الأصوليون قديما وحديثا، وفُرغ منه. ولكني أذكر فقط بعض أمثلتها، ثم بعض تطبيقاتها في موضوع الشورى وتنظيمها وتحصينها.

من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن قتل المنافقين ـ مع نفاقهم وإذاياتهم ومآمراتهم ـ حتى لا يكون ذلك ذريعة لتخويف الناس من الدخول في الإسلام بحجة “أن محمداً يقتل أصحابه”. فبعض المنافقين كانوا مستحقين للقتل، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك، ولكنه تركهم سدا للذريعة.

ونهى عليه السلام عن إقامة الحدود في الغزو، أو في جبهات القتال وفي بلاد العدو، لأن ذلك سيفضي إلى هروب من وجبت عليهم الحدود والالتحاق بالعدو، وربما يرتد بعضهم بذلك.

ونهى عمر بعض الصحابة عن الزواج بالكتابيات في ظرف معين، خشية أن يؤدي ذلك إلى فتنة المسلمات…

وفي موضوع الشورى، نجد عمر أيضا أول من استعمل سد الذرائع، وذلك حين رفض استخلاف ولده عبد الله، وحتى حين أدخله للحضور مع الستة أصحاب الشورى، اشترط ألا يكون له من الأمر شيء، وإنما لمجرد الرأي والترجيع عند الاقتضاء.

وكذلك استبعد من هذا الأمر ابن عمه سعيد بن زيد، رغم أنه من المبشرين بالجنة، مثل الستة أصحاب الشورى.

فعمر رضي الله عنه، كان يخشى إن تولى بعده أحد قرابته، رغم أهليتهم، أن يتخذ ذلك ذريعة لتوريث الخلافة، وجعلها دُولة بين الآباء والأبناء، والأجداد والأحفاد.

ومع هذا فإن المحذور حصل، ولو بعد حين. غير أن ما يؤسف له أكثر، هو أننا لم نجد من العلماء من أفتى بعدم جواز ذلك، ولو من باب سد الذرائع. مع أن قاعدة سد الذرائع معمول بها عند جميع المذاهب المعتبرة، وعليها مدار أحكام شرعية واجتهادات فقهية لا تحصى، حتى قال ابن القيم “وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود.

والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين.” ([19])

فلو أن قاعدة سد الذرائع قد أُعملت في مجال النظام السياسي ومؤسساته وتدبير شؤونه، لأغلقت الباب على كثير مما أصاب الممارسة السياسية في تاريخنا من التلاعب والتعطيل والتضليل والإفساد والاستبداد…

ولا يفوتني أن أسجل هنا ـ إنصافا واعترافا ـ ما كان يأخذ به حكام دولة الموحدين بالمغرب الأقصى، حيث كانوا لا يسمحون بتولي القضاء لأكثر من سنتين، تلافيا للمفاسد التي تنجم عن طول البقاء، أو البقاء مدى الحياة، في منصب القضاء. وهذا إنما هو عمل بقاعدة سد الذرائع.و بسنة عمر رضي الله عنه في إعمالها.

نقل صاحب كتاب (تاريخ الدولتين…): “أن عادة الموحدين قديما بتونس، أنهم لا يولون القضاء أكثر من عامين، عملا بما أوصى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين كتب عهده أنه لا يولى عامل أكثر من عامين. وأيضا فإنهم يرون أن القاضي إذا طالت مدة قضائه اتخذ الأصحاب والإخوان، وإذا كان بمظنة العزل لا يغتر. وأيضا فإن الحال إذا كان هكذا، ظهرت مخائل المعرفة بين الأقران، وكثر فيهم القضاة بتدربهم على الوقائع، فيبقى الحال محفوظا، بخلاف ما إذا استبد الواحد بعمل، فإنه لا يقع فيهم تناصف ولا يحصل لمن بعده النفوذ بوظيفة ما قدم إليه إلا بعد حين، وتنطمس قلوب الطلبة لإياسهم من الولاية إلا بعد مشقة.” ([20])

3ـ المصالح المرسلة

هذا أصل كبير من أصول التشريع الإسلامي، وهو يقوم على أساس أن الشريعة وأحكامها، إنما هي لمصلحة العباد في دينهم ودنياهم، وأن مدار أحكامها على جلب ما فيه مصلحة حقيقية لهم، ودرء ما فيه مفسدة حقيقية لهم، عاجلة كانت أو آجلة.

وكما يقول ابن القيم رحمه الله: “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل…”([21])

وبما أن الشريعة لم تنص على جميع المصالح تعييناً وتفصيلاً، ولم تنص على جميع الأحكام اللازمة لحفظ المصالح التي لا تعد كثرةً وتشعباً وتزايداً، فإنها وضعت إلى جانب أحكامها التفصيلية، أحكاماً عامة وقواعد كلية ومقاصد جامعة، ليؤخذ منها ما لا يحصى من أحكام النوازل والأحوال المتجددة. كما في قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} ([22]) وقوله: {وافعلوا الخير} ([23]) {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} ([24]) وقوله  {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)}([25]).

فمن هنا تستمد قاعدة “المصالح المرسلة” مشروعيتها وحجيتها وأهميتها. فكل ما هو خير ومصلحة وحق وعدل وإحسان، فهو مطلوب شرعا، طلب ندب أو طلب وجوب، حسب أهميته ومدى الحاجة أو الضرورة إليه.

وعلى كل فالمصالح المرسلة هي أيضاً قد أشبعت بحثا لدى الأصوليين ولدى الدارسين المعاصرين، وكتبت فيها عشرات المؤلفات، انتهت كلها إلى حجيتها وأهميتها الكبرى في التشريع الإسلامي.

وقد ذكر الإمام الشاطبي أن المصالح المرسلة التي يؤخذ بها وتبنى الأحكام عليها، لا بد وأن تتصف بثلاثة أوصاف:

أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله.

الثاني: أن تكون مما يعقل وجرى على وفق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول. فلا مدخل لها في التعبدات وما جرى مجراها…

الثالث: أن يكون في الأخذ بها حفظ لمقاصد الشرع… فهي من الوسائل لا من المقاصد… ([26])

ومعنى هذا وملخصه أن المصالح التي تبنى عليها الأحكام ويتعين حفظها هي المنسجمة مع أدلة الشرع ومقاصده والمحققة لها، وهي التي تدركها العقول وتقدرها، وليست ما يعود إلى الأهواء والنزوات والظنون المجردة.

هذا الأصل التشريعي الإسلامي الكبير، عمل به فقهاء المسلمين وولاتهم وقضاتهم على مر العصور، وبنوا عليه ما لا يحصى من اجتهاداتهم في شتى المجالات.

من ذلك جمع المصحف الشريف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ثم جمع المسلمين على مصحف واحد، من خلال نسخ موحدة اعتمدت وحدها في بالأقاليم الإسلامية، وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه. وهو المصحف الذي عرف باسمه (المصحف العثماني)، وهو الذي عليه الأمة إلى الآن.

وفي خلافة عمر تم الاتفاق على بدء العمل بالتاريخ وجعلوا بداية السنة من أول شهر المحرم. وفي خلافته كذلك تم اتخاذ الدواوين، وجعلت للجند رواتب. ثم بعد ذلك جعلت الرواتب للقضاة ولسائر الوظائف، حتى وصل الأمر إلى جعل رواتب للعلماء والخطباء وأئمة الصلوات…

والحقيقة أن عدداً لا يحصى من الفتاوى الفقهية والإجراءات التنظيمية والمالية، وغيرها مما وضعه المسلمون، أو اقتبسوه من تجارب غيرهم، إنما مرجعه المصالح المرسلة، أو الاستصلاح.

غير أن نصيب الشورى من هذا الاستصلاح لا يكاد يذكر، ولا نكاد نعثر له على أثر.

لقد كان بالإمكان ـ وبإمكاننا ذلك اليوم ـ اعتماد جميع التدابير والأحكام التي تحقق وتخدم الشورى، ومصلحة ممارسة الشورى، ومصلحة إقامة حياة شورية وعلاقات شورية. فكل ما يدخل في هذا الباب فهو واجب أو مندوب، لأنه مصلحة مرسلة.

فتحديد المستشارين، وتحديد شروطهم بدقة، ومراجعة هذا وذاك على فترات زمنية محددة، وتحديد مواعيد دورية للشورى، وتأسيس هيئات شورية متعددة، علمية، وقضائية، وسياسية، وعسكرية، ومالية.

والتحديد المسبق لمن يختارون الإمام وطريقة تشاورهم واختيارهم له، وكذلك كيفية عزله وشروط ذلك. وجعل رواتب لأهل الشورى، إذا شغلهم ذلك عن مكاسبهم. كل هذه، وأشياء غيرها، تدخل في باب المصالح المرسلة. التي يتعين الأخذ بها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

4ـ الاقتباس من الغير لما فيه مصلحة وخير

ليس هناك قاعدة معروفة بهذا اللفظ وبهذه الصيغة، ولكن مضمون هذه القاعدة صحيح شرعاً ومعمول به تاريخاً وواقعاً.

عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وخلفاؤه الراشدون. وعمل به المسلمون في جميع العصور، وخاصة في الشؤون التنظيمية والوسائل التنفيذية.

لقد كان المسلمون يقتبسون من غيرهم كل ما ينفعهم ويصلح لهم مما لا يتعارض مع دينهم.

بل إن القرآن الكريم يعلمنا أن نقتبس ونستفيد حتى من غير الإنسان. فقد استفاد نبي الله سليمان عليه السلام من الهدهد، وكان في ذلك فتح مبين وخير عميم، {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } ([27])، وكانت عاقبة هذا النبإ اليقين، هي إعلان الملكة بلقيس إيمانها وإسلامها، مع كل ما يستتبع ذلك من تحول تاريخي في ملكها ومملكتها قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ([28])

كما قص علينا القرآن الكريم استفادة ولد آدم من الغراب، ولومه لنفسه لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} ([29])

فإذا كان هذا مع الهدهد والغراب، فكيف بنا مع الإنسان، بكل ما وهبه الله من قدرات عقلية وفكرية، ومن قدرة على تطوير التجارب والخبرات، وبما هو مبثوث فيه وفي تاريخه من تراث الأنبياء وآثارهم، ومن حكمة الحكماء وآرائهم؟

وفي السيرة النبوية، لما اجتمعت الأحزاب ـ في غزوة الأحزاب الشهيرة بغزوة الخندق ـ على غزو المسلمين واستئصالهم، جاءت فكرة حفر خندق حول المدينة، لمنع الجيوش الغازية من دخولها. وهذا أسلوب كان يستعمله الفرس. قال الحافظ ابن حجر “وكان الذي أشار بذلك سلمان ـ فيما ذكر أصحاب المغازي، أو معشرـ قال سلمان للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة. وعمل فيه بنفسه…” ([30])

ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعونا من فارس، ودعونا من أساليب المجوس المشركين…

وحينما تشاور المسلمون ـ ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في طريقة يعلنون بها دخول وقت الصلاة ودعوة المصلين إلى المسجد، كان منهم من اقترح اتخاذ بوق مثلما عند اليهود، ومنهم من اقترح استعمال ناقوس مثما عند النصارى. ([31]) ولم يستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولا زجرهم عن ذلك، بل استمر التشاور حتى اهتدوا إلى ماهو أفضل وأليق، وهو الآذان المعروف.

وحين استشار عليه السلام الصحابة فيما يفعله بعد أن بدأ القيام أثناء الخطبة يشق عليه، كان ممن اقترحوا عليه فكرة المنبر تميم الداري، الذي كان ـ رضي الله عنه ـ قد شاهد استعمال المنابر في الشام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق علي. فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فرأوا أن يتخذه” ([32])والاقتباس من الشام إنما يعني يومئذ الاقتباس من الروم ومن النصارى.

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى ملوك زمانه (قيصر وكسرى والنجاشي) قيل له: “إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقته فضة، ونقش فيه (محمد رسول الله).” ([33])

وعند مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما: “وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به.” ([34])

وفي صحيح مسلم أيضا، من نماذج هذا التوجه الاستيعابي المتفتح، ما رواه “عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني الليث بن سعد، حدثني موسى بن علي عن أبيه قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، فإن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. ([35])

وكلها صفات مسوقة مساق المدح والثناء والدعوة إلى الاقتداء. وأقربها إلى موضوعنا، الصفة الخامسة الأخيرة.

ومن لطائف السنة ونفائسها في هذا الباب ذلك الحديث الطويل المعروف بحديث أم زرع. وهو حديث قال عنه القاضي عياض “لا خلاف في صحته وأن الأئمة قد قبلوه، وخرجه في الصحاح البخاري ومسلم فمن بعدهما ([36]). وخلاصته أن إحدى عشرة امرأة من نساء الجاهلية جمعهن مجلس لهن، فاتفقن على أن تتحدث كل منهن عن خصال زوجها وماله وما عليه، واتفقن على أن يكون حديثهن صدقا لا كذب فيه، ثم تحدثن بذلك كلُّهن، وكانت أُخراهن هي “أم زرع” ذات التجربة الشيقة مع زوجها السخي الكريم “أبي زرع”، وهي التي سمي الحديث باسمها.

وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: “يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع. فقالت عائشة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بل أنت خير لي من أبي زرع…” ([37])

وقد أفرد القاضي عياض هذا الحديث بشرح خاص سماه (بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد).

قال القاضي عياض رحمه الله عن هذا الحديث “وفيه من الفقه جواز الحديث عن الأمم الخالية، والأجيال البائدة، والقرون الماضية، وضرب الأمثال بهم، لأن في سِيَرهم اعتباراً للمعتبر، واستبصاراً للمستبصر، واستخراجَ الفائدة للباحث المستكثر…” ([38])

وقد نقل القاضي عياض قول الفقيه المالكي القاضي المهلب بن أبي صفرة عن هذا الحديث: “فيه من الفقه جواز التأسي بأهل الإحسان من كل أمة“، ثم علق عليه قائلاً “وأما قوله بجواز التأسي بأهل الإحسان من كل أمة فصحيح، ما لم تصادمه الشريعة.” ([39])

فهذا هو النهج الإسلامي الصحيح، جواز التأسي بكل من أحسن في إحسانه، وكل من أجاد في إجادته، وكل من أصاب في إصابته، والميزان هو: ما يوافق الإسلام ويخدمه، وما ينفع المسلمين ويخدم مصالحهم.

وعلى هذا الأساس سارالصحابة والخلفاء الراشدون، فاقتبسوا واستفادوا، بلا تحرج ولا تنطع، والأمثلة كثيرة جداً ومعروفة جداً، فلا أطيل.


([1]) سورة الزمر، 18

([2]) سورة الشورى، 38

([3]) سورة الكهف، 26

([4]) سورة يونس، 3

([5]) سورة الأحزاب، 38

([6]) صحيح البخاري، كتاب الحدود.

([7]) سورة الحشر، 2

([8]) تاريخ ابن خلدون، المجلد الأول (المقدمة) ص 510.

([9]) أم القرى، ضمن الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي، ص 181.

([10]) كتاب الاعتصام، باب قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، وكتاب التفسير باب (خذ العفو…).

([11]) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.

([12]) سورة  الكهف، 49

([13]) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 1/239.

([14]) هذه رواية البخاري، من كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، وهو عنده، وعند مسلم أيضا، في كتاب الفتن.

([15]) فتح الباري 7/310، والذي وجدته في شرح ابن بطال (10/46) هو: “قال المهلب (يقصد القاضي المهلب بن أبي صفرة): “فإن قال قائل: فمن أين علم عمر أن الباب إذا كسر لم يغلق أبدا؟ فالجواب: أنه استدل عمر على ذلك، لأن الكسر لا يكون إلا غلبة، والغلبة لا تكون إلا في الفتنة.”

([16]) صحيح مسلم بشرح النووي 12/3

([17]) مجموع الفتاوى 35/20

([18]) أمحزون، محمد . تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة ، 2/110.

([19]) أعلام الموقعين 3/159

([20]) تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، لابي عبد الله محمد بن إبراهيم اللولوي، المعروف بالزركشي، ص44

([21]) أعلام الموقعين 3/3

([22]) سورة النحل، 90

([23]) سورة الحج، 77

([24]) سورة الزلزلة، 7-8

([25]) سورة العصر.

([26]) الاعتصام (بتصرف يسير) 2/129-133

([27]) سورة النمل، 22

([28]) سورة النمل، 44

([29]) سورة المائدة، 30-31

([30]) فتح الباري 8/148

([31]) البخاري في الآذان، والترمذي في أبواب الصلاة (وقد سبق الحديث بنصه وتخريجه)

([32]) فتح الباري 3/60

([33]) هذه رواية مسلم في كتاب الزينة، وهو في البخاري، كتاب العلم وكتاب اللباس وغيرهما.

([34]) صحيح مسلم، كتاب الفضائل.

([35]) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.

([36]) بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، ص 18.

([37]) بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، ، ص18.

([38]) المرجع نفسه، ص 36.

([39]) المرجع نفسه، ص 171.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى