أبحاث أصولية

التجربة الشورية الأولى: ملامحها ودروسها

التجربة الشورية الأولى: ملامحها ودروسها

حينما أنزل الله تعالى أول آية في موضوع الشورى ـ وهي قوله âوأمرهم شورى بينهمá ـ كان ذلك في المرحلة المكية، قبيل الهجرة، وجاء الخطاب بصيغة التقرير والثناء لا بصيغة الأمر والإنشاء. ومعنى هذا أن الشورى كانت قائمة وكانت سنة جاريةً وسلوكا متبعا في الجماعة المسلمة.

وسواء قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ربما كان قد استنها لهم وأقامها فيهم قبل نزول آية الشورى، وقبل نزول آية آل عمران، âوشاورهم في الأمرá، أو قلنا: إنهم أقاموا الشورى في حياتهم وشؤونهم، ببداهة عقولهم وسلامة فطرتهم، فإن الشورى تعد مسلكا فطريا تلقائيا من مسالك العقلاء الأسوياء. وقد جاء الشرع ليضفي على هذا المسلك صفة الشرعية وصفة التكليف الشرعي، كما هو شأن الشرع مع كثير من النوازع الفطرية الخيرة، والمبادئ العقلية السديدة.

وقد أورد ابن الأزرق قول الطرطوشي عن الشورى “هي مما تعده الحكماء من أساس المملكة وقواعد السلطنة، ويفتقر إليها الرئيس والمرؤوس([1]): ثم عقب عليه بقوله: “قلت: هو كذلك في الشريعة حرفا بحرف.([2])

وهذا التطابق التام “حرفا بحرف” بين الشريعة والحكمة في هذه المسألة، إنما يدل على بداهة السلوك الشوري وفطريته لدى كل عاقل سوي. ولقد قدم الدكتور قحطان الدوري نبذة جيدة حول عراقة السلوك الشوري والتدبير الجماعي: عند القبائل العربية، وعند سكان استراليا الأصليين، وعند الرومان واليونان، وقدماء العراقيين والساسانيين والمصريين والأشوريين ([3])… وكل ذلك يدل على عراقة النزعة التشاورية الديمقراطية في الحياة البشرية. كما يشير كذلك إلى عراقة التمثيل النيابي والشورى النيابية، لدى مختلف الشعوب والجماعات، مهما تنوعت الصيغ المعتمدة في ذلك.

انطلاقا من هذه البداهة الفطرية والشرعية وفي نطاقها، جرت التجربة الشورية الإسلامية الأولى على أيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم. ولقد ظلت هذه التجربة متسمة بكثير من العفوية والتلقائية والتسامح والثقة، متقللة ـ في مقابل ذلك ـ من الضوابط التفصيلية والشكليات التنظيمية. بل إن مجمل حياتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم وأقضيتهم، كانت تتسم بهذه السمات. ولم يغيروا شيئا من هذا النمط إلا لضرورة ضاغطة. ولقد كان الرجل من العرب يسمع برسول الله صلى الله عليه وسلم وبنبوته وبدينه، فيأتيه يسأل عنه، فيُقال له هو هناك مع أصحابه، فيقف على الجماعة دون أن يرى فيهم أحدا متصدراً أومتميزاً، فيسأل متحيراً: من منكم محمد؟!

ولما جاء الهرمزان يسأل عن الخليفة عمر ويستأذن عليه، لم يجد عنده حاجباً ولا بواباً، بل قيل له: هو في المسجد “فأتى المسجد، فوجده مستلقيا متوسدا كوما من الحصى، ودرته بين يديه، فقال الهرمزان: يا عمر عدلت فأمنت فنمت.” ([4])

وتغيرت بعد ذلك كثير من الأحوال، وتولى الخلافة عثمان رضي الله عنه، وهو من كبار أثرياء الصحابة، ومع ذلك ظل الخليفة على بساطته وطمأنينته، حتى قال الحسن البصري: “رأيت عثمان بن عفان، وهو يومئذ خليفة، يَقيل في المسجد، ويقوم وأثر الحصى بجنبه”

وقال أيضا: “رأيت عثمان بن عفان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين.” ([5])

والأمثلة على هذا كثيرة سواء في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في سيرة خلفائه، وإنما أردت التذكير بطبيعة هذه المرحلة واستحضار شيء من سماتها ونسماتها، ونحن نتحدث عن تجربتهم الشورية.

لقد كانت الشورى مكثفة في هذه المرحلة، وكانت تشمل عظائم الأمور وصغارها، من قضايا الأمة في السلم والحرب، والخلافة والتشريعات العامة، إلى نوازل الأفراد في زواجهم وطلاقهم وميراثهم، ومنازعاتهم حول البئر والنخلة والناقة…

وأهم شيء في هذه المشاورات المكثفة، هو أنها كانت تحقق جوهرها ومقصودها على أكمل الوجوه، ثم لا يُلْتفتُ كثيرا لما سوى ذلك، ويمكن أن نلخص طبيعة مشاوراتهم بعبارة: “الشورى بمقاصدها لا بشكلياتها”. فلم يكن عندهم كبير التفات إلى من استُشير ومن لم يُستشر، وإلى من حضر ومن غاب، إذا كان الذين استشيروا أهلا لتلك المشورة، وكان من غاب عنها لا يضر غيابه، ولم يُقصد تغييبه.

 ولم يكن عندهم كبير التفات إلى عدد المستشارين في القضية، وهل هم آحاد، أو عشرات، أو مئات، إذا كان من استشيروا يقومون مقام غيرهم، ويعبرون بصدق عن آرائهم ومصالحهم.

ولم يكن عندهم كبير التفات وتدقيق في عدد الذين أيدوا والذين عارضوا، إذا ظهر بوضوح التوجه العام الغالب في المسألة، أو حصل فيها نوع من التراضي والتطاوع والتسامح.

وإذا خالفهم أحد منهم ثم رأوا في لهجته صدقا وفي حجته قوة ووثوقا، لم يلبثوا أن يضعوا ثقتهم في صدقه وعلمه وما يعرفونه من خبرته وحسن تقديره، فينقلب رأي الواحد المنفرد إلى إجماع أو شبه إجماع.

وكانت المشاورات تتم في جو من الحرية والأمن والجرأة. فلا أحد يحابي أحداً، ولا أحد يخادع أحداً، ولا أحد يخاف من أحد، ولا أحد يطمع في أحد.

في هذه الأجواء، وبهذه السمات، لم تكن شوراهم بحاجة إلى قوانين مفصلة وإلى ضوابط مدققة، ولا إلى ضمانات واحتياطات، فالتعقيد التنظيمي حين لا يكون ضروريا يصبح عبئا وعائقا، أو على الأقل، قد تكون كلفته أكثر من فائدته.

لقد كانت الشورى في التجربة الأولى خفيفة في تنظيمها وطرق إجرائها، ولكنها كانت ثقيلة بجديتها وأخلاقيتها.

وإذا كانت المشورات النبوية قد سبقت منها أمثلة عديدة، ثم هي، من جهة أخرى، لا تحتاج إلى شهادة أحد وتزكيته، ولا إلى تعليله لها أو دفاعه عنها، لأنها هي الأصل لغيرها، وهي الحجة على غيرها، فإني أنتقل إلى ذكر نماذج من مشاورات الصحابة، وخاصة الخلفاء الراشدين، لأجل بيان السمات والملامح التي ذكرتها.

1ـ بيعة الصدِّيق

أبدأ بالمشاورة الكبرى التي جرت لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك اعتمادا على رواية الإمام البخاري، وفيها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه رجل وهو في موسم الحج، فقال: “يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر، لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت.

فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.”، غير أن عبد الرحمان بن عوف أقنعه أن يترك الأمر حتى يرجع إلى المدينة، وأن موسم الحج غير مناسب لإثارة هذه القضية…

فلما عاد إلى المدينة خطب في الناس وقال فيما قال: “بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر، بايعت فلانا، فلا يغترَّنَّ امرؤٌ أن يقولَ: إنما كانت بيعةُ أبي بكر فلتة وتمَّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها، وليس منكم من تُقطع الأعناق إليه مثلُ أبي بكر، من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين، فلا يبايَعُ هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يُقـتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توَفّى اللهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنَّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسْرِهم في سقيفة بني ساعدة، وخالفَ عنّا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنَوْنا منهم لقيَنا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأَ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لَنَأتينَّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزَمَّلٌ بين ظهرانيْهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما لهُ؟ قالوا: يُوعَكُ، فلما جلسنا قليلا، تشهَّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رَهْطٌ، وقد دفَّت دافّةٌ من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر([6]) فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زوَّرتُ ([7]) مقالة أعجبتني أريدُ أن أقدِّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدِّ، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رِسْلِك، فكرِهت أن أغضبَه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني، وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزْويري إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها، حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين، فبايِعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكْرَهْ مما قال غيرها، كان والله أن أقدَّم فتُضربَ عنقي لا يقرِّبني ذلك من إثم، أحبَّ إليَّ من أن أتأَمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسَوِّل إليَّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيْلُها المحَكَّكُ، وعُذْيْقُها المرجَّبُ، منا أمير، ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثُر اللغطُ، وارتفعت الأصواتُ حتى فرِقتُ من الاختلاف، فقلت: ابسُط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايَعَتْهُ الأنصار، ونزَوْنا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم، قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم، فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين، فلا يُتابعُ هو ولا الذي بايَعه تَغِرَّة أن يُقتلا”.([8])

ففي هذه الرواية ـ ورويات أخرى ـ أن المشاورة بشأن اختيار خليفة للمسلمين، جرت بين الأفراد والمجموعات الصغيرة، وجرت فيما بين الأنصار، وجرت فيما بين المهاجرين، ثم التأم الجميع في سقيفة بني ساعدة وجرت المشاورة الكبرى والنقاش العام بين المهاجرين والأنصار، إلى أن أسفر ذلك كله عن مبايعة أبي بكر رضي الله عنه.

 ورغم أن هذه المشاورات قد تعددت واتسعت وطالت واحتدمت، قبل أن تسفر عن نتيجتها، فإن مبايعة أبي بكر قد اعتبرت بمثابة فلتة. وعمر نفسه ـ وهو زعيم هذه الفلتة ـ قد أقر هذا الوصف، ولم ينفه، ولكنه فسر لماذا كانت فلتة؟ ولماذا كانت هذه الفلتة مقبولة وناجحة؟ ولماذا لا ينبغي أن تتكرر؟.

فهي فلتة، لأنها تمت بنوع من السرعة والعفوية وعلى غير نظام معتمد، نظرا للظرف الخاص والحرج المتمثل في صدمة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير أن يكون هناك ترتيب محدد لمسألة الخلافة. ثم يشفع لهذه الفلتة أنها أول سابقة وأول تجربة في تاريخ الإسلام والمسلمين. ومع ذلك فواضح أنها كان لها من التحاور والتشاور، وبصراحة وحرية، الشيء الكثير.

على أن السبب الأهم في مشروعيته هذه “الفلتة” ونجاحها وسلامتها، هو أن الخليفة الذي أسفرت عنه، كان بالمقام الذي لا يدعيه أحد ولا يتطلع إليه أحد، سواء من حيث مؤهلاته وفضائله، أو لما حظي به من إشارات نبوية قوية، ترشحه وتزكيه لخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحتى بعض الأنصار الذين ارتأوا أن يكون الخليفة منهم لا من المهاجرين، بادروا بلا تحفظ إلى المبايعة لما بدأت البيعة لشخص أبي بكر بالذات، ولا شك أنهم كانوا أكثر ارتياحاً لأبي بكر وأكثر إجماعاً على مبايعته من أي زعيم أنصاري بينهم.

ومع ذلك، فإن هذه الفلتة وهذه العفوية، هي في نظر عمر حالة استثنائية، تمت بنجاح، ومضت بسلام، لكن لا ينبغي أن تتكرر ولا أن يقاس عليها. وأبو بكر لا ثاني له في المسلمين. ولذلك جاء كلامه واضحاً حاسماً: “فلا يغترًّنّ امرُؤ أن يقولَ: إنما كانت بيعةُ أبي بكر فلتة وتمَّتْ، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم مَنْ تُقْطَعُ الأعناق إليه مثْلُ أبي بكر، منْ بايع رجُلاً عن غيرِ مشورة من المسلمينَ، فلا يُبايعُ هو ولا الذي بايعهُ تَغِرَّة أن يُقْتلا…”

والسبب هو أن الذين يفكرون في اتخاذ هذه الفلتة أصلاً وقاعدة إنما يريدون إلغاء الأمة وممثيلها وأهل الحل والعقد فيها، وأن يلغوا حق الشورى، وفريضة الشورى. ولذلك كان جوابه الفوري، حين بلغته مقالة الفلتة، جواباً سريعاً حاسماً: “إني لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.” وقد تضمن تحذيره التهديد بقتل من يبايع فلتة ومن يقبل تلك البيعة لنفسه. وهذا أبلغ إنذار وأشد تحذير.

غير أن بعض الفقهاء والمتكلمين غفلوا عن هذا التحذير العمري، الشديد اللهجة، وظلوا يتمسكون بالفلتة، ويتخذونها أصلا وقاعدة، فقالوا: تنعقد الخلافة ببيعة الواحد، أو الإثنين…أو الأربعة.

وقد بين إمام الحرمين هذه المسألة بياناً شافياً، فقد ذكر مختلف الأقوال والمذاهب فيها، ومنها قول الأشعري والباقلاني بأن “الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل الحل والعقد” ([9])، وانتهى رحمه الله إلى القول: “فالوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع، تحصل بهم شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة…” ([10])

 وهذا عين ما نص عليه ابن تيمية بقوله: “بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة. كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين. وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد. فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة… الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة.” ([11])

ويرى الجويني أن مبايعة عمر لأبي بكر، ما كانت لتقع صحيحة لازمة نافذة، لولا أنه “لما بايع عمر مالت النفوس إلى المطابقة والموافقة.” ([12])

ولو أن بيعة عمر لأبي بكر ووجهت بالمعارضة والرفض الواسعين، لما أمكن القول بانعقادها ببيعة رجل واحد. ([13])

ولو أخذنا بانعقاد بيعة الواحد ولزومها التلقائي للمسلمين، لكنا قد أعطيناه حق التأمير على المسلمين بغير مشورة لهم ولا تفويض منهم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقول: “لو كنت مؤمراً أحداً من غير مشورة لأمَّرت ابن أم عبد.” ([14])

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعط لنفسه الحق في أن يؤمر على المسلمين بغير مشورة منهم، وهو الذي قــال الله تعــالى فيه ٍ{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} ([1])، وقال {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ([2]) فكيف يعطَى هذا الحق لغيره؟ ! هيهات هيهات.

2ـ استخلاف عمر

لما اشتد المرض بالخليفة أبي بكر، بدأ مشاوراته في شأن من يمكن أن يخلفه في حال وفاته. وهكذا “دعا عبد الرحمان بن عوف، فقال أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، قال أبو بكر: وإنْ. قال عبد الرحمان بن عوف: هو والله أفضل من رأيك فيه. ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر؟ فقال أنت أخبرنا به: فقال: على ذلك. فقال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. وشاور معهما سعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار…: فقال أسيد: اللهم أَعْلَمُه الخيّر بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط. الذي يُسِرُّ خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أقوى عليه منه.” ([3])

وأهم شيء في هذه المشورات والشهادات، سلامتها قطعا من أي مداهنة أو محاباة أو غرض أو خوف. فكل هذه الآفات لم يكن لها نصيب عند هؤلاء. ولذلك عندما وجد بعض الصحابة في نفوسهم شيئا من عمر، وقد سمعوا ترشيح أبي بكر له، لم يترددوا في الدخول على أبي بكر قائلين له “ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد نرى غلظته؟” فقال أبو بكر للمتكلم ولمن معه ومَنْ على تحفظه: “بالله تخوفني؟ أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلتُ مَن وراءك…” ([4])

“وأخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة قال: لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة فقال: أيها الناس، إني قد عهدتُ عهدا، أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله. فقام علي، فقال: لا نرضى حتى يكون عمر. قال: فإنه عمر.” ([5])

فها هنا أيضا نجد الشورى قد أخذت مجراها، بكل صدق وبكل عفوية، في أجواء تملؤها الصراحة والبراءة، ليس فيها شكوك ولا ظنون ولا اتهامات.

فأبو بكر استخلف عمر، وما أدراك ما أبو بكر؟! وما أدراك ما عمر؟!

وأبو بكر استشار في هذا الاستخلاف أعيان المهاجرين والأنصار.

ثم عرض الأمر على من تيسر من عامة المسلمين.

ونتيجة هذا كله: التأكد من أن عمر سيتولى أمر المسلمين بمشورتهم ورضاهم، وباقتناع تام منهم أن لا أحد يمكن أن يقدم على عمر. فثقتهم في عمر، وفيمن يرشح لهم عمر، ثقة لا حدود لها…

بعد هذا لا يبقَى كبير أهمية لعدد من استشيروا، وكيف استشيروا، وهل بقي أحد كان ينبغي استشارته…

3ـ بيعة عثمان

لما طعن عمر رضي الله عنه وظهر أنه لن يعيش بعدها، بدأ الناس يتوافدون عليه، وطلبوا منه أن يوصي ويستخلف كما استخلف أبو بكر، فقال: “ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ـ أو الرهط ـ الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. فسمى: عليا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدا، وعبد الرحمان، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء…” ([6])

اجتمع هؤلاء السادة الكرام، وأخذوا في التشاور، إلى أن قال لهم عبد الرحمان بن عوف: “لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمان. فلما ولَّوْا عبد الرحمان أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمان يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان، قال المسور، طرقني عبد الرحمان بعد هجعٍ من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً، فالولله ما اكتحلتُ هذه الثلاث بكثير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له، فشاورهما. ثم دعاني فقال: ادع لي علياً، فدعوته، فناجاه حتى ابْهارَّ الليل (أي انتصف) ثم قام عليُّ من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمان يخشى من علي شيئاً ([7]). ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر. فلما اجتمعوا، تشهد عبد الرحمان ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا. فقال (أي لعثمان): أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمان، وبايعه الناس، المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.” ([8])

وفي رواية عن الزهري “ومال الناس على عبد الرحمان، يشاورونه ويناجونه تلك الليالي، لا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحداً. ” ([9])

وقال ابن كثير: ثم نهض عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما (في علي وعثمان) ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم، جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد المدينة من الركبان والأعراب، في مدة ثلاثة أيام بلياليها. فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس.” ([10])

ففي هذا النموذج نجد ممارسة الشورى بطريقة قل نظيرها في التاريخ، وهل يمكن أن يكون لها نظير؟

 لا أريد أن أطيل في شرح هذه الممارسة الشورية الفريدة والتعليق عليها، ولكني أسطر بعض الخلاصات.

ـ لقد اعتمد عمر في تعيين الستة الذين عيَّنهم وجعل الأمر فيما بينهم، على أساس غير قابل للطعن، وغير قابل للتكرار ولا يمكن القياس عليه، وهو رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أولئك الستة رضي الله عنهم.

ـ وفضلاً عن هذا الرضا النبوي، فقد كان هؤلاء الستة قادة وسادة مرضيين عند عموم المسلمين. قال ابن بطال: “وكان (أي عمر) مع ذلك عالما برضا الأمة بمن رضي به النفر الستة، إذ كان الناس لهم تبعاً، وكانوا للناس أئمة وقادة” ([11]). وقال الطبري “فلم يكن من أهل الإسلام أحد يومئذ له منزلتهم في الدين والهجرة والسابقة والفضل والعلم وسياسة الأمة.” ([12])

ـ ومع هذا، فإن ابن عوف قد شاور وبالغ في المشاورة، حتى لكأنه أجرى استفتاء شعبيا عاما في المسألة. وواضح أن الثقة فيه وفيما انتهى إليه كانت تامة لا غبار عليها البتة.

4ـ التشاور حول الأراضي المفتوحة

هذه قضية فقهية، ذات أبعاد سياسية وعسكرية واقتصادية، اختلف فيها الصحابة، ومن بينهم الخليفة عمر. فرأى بعضهم أن الأراضي المفتوحة تقسم بين المقاتلين الفاتحين كسائر غنائم الحرب، ورأى آخرون أن الأراضي لا تقسم ولا يختص بها المقاتلون، وأن الذي يقسم هو الغنائم المنقولة دون الأراضي.

روى أبو عبيد بسنده، أن بلالاً رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب، في القرى التي افتتحها عنوة، اقسمها بيننا، وخذ خمسها. فقال عمر: “لا، هذا عين المال، ولكني أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين…” ([13])

ولما لم يصل عمر مع المقاتلين وممثليهم إلى نتيجة متفق عليها، عرض الأمر للشورى، فاستشار أولاً كبار المهاجرين فأيده أكثرهم، وأيد عبد الرحمان بن عوف مطلب الفاتحين. ثم عرض الأمر على كبار الصحابة من الأنصار فوافقوه جميعاً.

قال أبو يوسف: “فأما عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه، فكان رأيه أن يقسم لهم حقوقهم. ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم رأي عمر. فأرسل إلى عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج، من كبرائهم وأشرافهم، فلما اجتمعوا، حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي، فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم. وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني. ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق. فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق، قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين.

قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلماً، لئن ظلمتهم شيئاً هو لهم، وأعطيته غيرهم، لقد شقيت. ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، قد غَنَّمنا الله أموالهم وأراضيهم وعلوجهم. فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه. وقد رأيت أن أحبِّس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية، يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين: المقاتلة، والذرية، ولمن يأتي بعدهم.

أرأيتم هذه الثغور، لا بد لها من رجال يلزمونها. أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام، والجزيرة، والكوفة، والبصرة، ومصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطي هؤلاء إذا قُسمت الأرضون والعلوج؟

قالوا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت، ونعم ما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور، وهذه المدن بالرجال، وتجري عليهم ما يتقوَّون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم.” ([14])

وواضح بما لا مزيد عليه أن عمر رضي الله عنه لم ينفرد برأيه في المسألة، كما يتردد، بل كان مع رأيه الجمهور الأعظم من أهل العلم والرأي من الصحابة.

وقد يقال: إنه كان متسمكاً برأيه من قبل أن يستشير ويلقى التأييد. وأقول لو أراد أن يتمسك برأيه وأن ينفذه بمفرده، لما عرض الأمر للشورى.

بل هناك ما يدل على أن عمر كان قد أراد أن يقسم الأراضي، وأن بعض مستشاريه من الصحابة هم الذين عارضوه، وأشاروا عليه بإبقائها بيد أصحابها. فقد روى أبو عبيد بسنده، عن حارثة بن مضرب، عن عمر: أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين… فشاور في ذلك فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين، فتركهم…

وروى أيضا: قدم عمر الجابية، فأراد قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذن ليكون ما تكره، إنك إن قسمتها، صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم… فصار عمر إلى قول معاذ.”([15]) قال أبو عبيد: “… وذلك أنه جعله([16]) فيئا موقوفاً على المسلمين ما تناسلوا، ولم يخمسه، ولم يقسمه، وهو الرأي الذي أشار به عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاذ بن جبل رضي الله عنه.” ([17])

خلاصة التجربة

وأعيد تلخيص ما بثثته في ثنايا هذا المبحث وقبله، من ملامح وعبر للتجربة الشورية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، على سبيل التذكير والتركيز.

لقد اتسمت هذه المرحلة وممارستها الشورية بما يلي:

1ـ  الحضور القوي والمؤثر للممارسة الشورية.

2ـ  الحرية الكاملة في التفكير والتَّعبير والمبادرة.

3ـ  الصدق والصرحة والنزاهة والثقة.

4ـ البساطة والمرونة التنظيمية في ممارسة الشورى، بما يتلاءم مع طبيعة العلاقات القائمة على البساطة والصدق والوضوح دون الإخلال بجوهر الممارسة الشورية ومقاصدها.


([1]) سورة التوبة، 128.

([2]) سورة الأحزاب، 6.

([3]) تاريخ الخلفاء للسيوطي، بتهذيب نايف العباس، ص 70 ـ 71.

([4]) تهذيب تاريخ الخلفاء، ص71

([5]) المرجع السابق، ص72

([6]) صحيح البخاري، كتاب الفضائل، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان.

([7]) الظاهر أنه كان يخشى من علي أن يعارض ولا يذعن إذا تمت البيعة لغيره، وهو ما لم يقع.

([8]) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الناس الإمام

([9]) فتح الباري 15/107

([10]) البداية والنهاية 7/146

([11]) شرح ابن بطال 8/217

([12]) المرجع السابق، ص 216، وفتح الباري 15/109

([13]) الأموال لأبي عبيد: 58

([14]) الخراج: 28 ـ 29

([15]) الأموال: 59

([16]) الضمير يعود على السواد.

([17]) الأموال: 60


([1]) انظر: سراج الملوك، ص 63، والعبارة بعينها عند ابن جماعة، انظر (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام) ص 169

([2]) بدائع السلك في طبائع الملك 1/302

([3]) الشورى بين النظرية والتطبيق، ص17ـ 25

([4]) سراج الملوك للطرطوشي، ص 90

([5]) أمحزون، محمد. تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، 1/397.

([6]) معناه: يريدون إقصاءنا وتهميشنا

([7]) أي أعددت ورتبت

([8]) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى إذا أحصنت.

([9]) الغياثي، ص 69 .

([10]) المرجع السابق، ص 70ـ 71 .

([11]) منهاج السنة النبوية 1/526 ـ 527.

([12]) الغياثي، ص 71.

([13]) المرجع السابق، ص 70.

([14]) جامع الترمذي، أبواب المناقب.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى