مقالاتمقالات فقهية

مستقبل الإسلام بين الحرب والسـلام..

من التحديات الكبيرة التي تواجه المسلمين ويواجهونها: قضية الحرب والسلم. فهي من أخطر التحديات السياسية والعسكرية، ولكنها قبل ذلك من أخطر التحديات – أو الإشكالات- الفقهية والفكرية.

مما لا شك فيه أن الإسلام شرع الحرب والقتال عند اللزوم، سواء على سبيل الإباحة أو الوجوب، حسب الحالات.

والقتال يكون واجبا ومتعينا إذا كان بحق ولأجل الحق، وكان لا مفر منه ولا بديل عنه، وكانت نتيجته المرجوة محققة أو شبه محققة، ولم يكن من مضاره ومفاسده المحققة ما يربو على فائدته.

وفي جميع الحالات، فإن دخول الحرب يتوقف على وجود قيادة شرعية تقدر كافة الشروط والاحتمالات والانعكاسات، ثم يتبين لها ويثبت عندها ضرورة دخول الحرب. فليس لأي واحد من الناس، ولا لأي جماعة منهم، الزج بالمسلمين في حرب بدون تحقق شروطها وموجباتها.

والحقيقة أن معظم حالات القتال والأعمال المسلحة التي يخوضها المسلمون اليوم، أو تفرض عليهم هنا وهناك، داخليا وخارجيا فاقدة للشروط كلها أو أكثرها، وهي لذلك فاقدة للشرعية الإسلامية، وهي في أحسن التقديرات والتأويلات اجتهادات خاطئة، ضررها أكبر من نفعها، وشرها أكبر من خيرها.

فأولا: من الذي يمتلك الحق والصلاحية ليدخل الأمة أو جزءا منها في حالة حرب ويفرض عليها أداء ثمنها وتحمل تبعاتها؟

وثانيا: ما نتائج هذه المغامرات الحربية والقتالية؟ ماذا جنى منها الإسلام والمسلمون وغير المسلمين؟

-هل هي فتح للإسلام؟ لا

-هل هي نصر للمسلمين؟ لا

-هل هي هدية وهداية لغير المسلمين؟ لا

-هل هي نكاية لأعداء الإسلام والمسلمين؟ لا

وأما ثالثا: وهذا هو الأهم عندي، فيقتضي التفريق بين نوعين من الأعمال الحربية والقتالية:

1- ما يكون دفاعا عن الإسلام إذا اعتدي عليه بالإهانة والتشويه وصد الناس عنه والحيلولة بينهم وبينه، والطعن في عقيدته أو شريعته أو نبيه…

2- ما يكون لرد العدوان والغزو والغصب عن المسلمين.

فأما هذه الحالة الثانية، فلا شك في حق المعتدى عليهم في رد العدوان بجميع الوسائل الممكنة، حربية وسلمية. وهم الذين يقدرون ويقررون ذلك، وعلى جميع المسلمين نصرتهم، الأقدر فالأقدر والأقرب فالأقرب.

وأما الحالة الأولى وهي المقصودة الآن، فتحتاج إلى مزيد تأمل وبيان.

يجب أن نستحضر أن الحروب الواسعة والشاملة اليوم هي حروب ماحقة مفنية، للإنسان والحيوان والعمران، والأسواق والأرزاق، والماء والهواء… وهذا شر ما أنتجته الحضارة الغربية. لقد أنتجوا ما يسمونه “أسلحة الدمار الشامل” التي لا تبقي ولا تذر، ووضعوها على رؤوس ملايير البشر. فرحم الله زمانا كان يقتتل فيه الناس بسيوفهم ورماحهم، ويخوضون معارك ضارية تسفر على قتل العشرات، ثم يعود الباقون إلى مواقعهم ومنازلهم، آمنين مطمئنين. فشتان شتان بين حرب وحرب وبين قتال وقتال. ونكاد نقول: اليوم قتل بلا قتال وإبادة بلا هوادة، ويقتل من الشعوب أضعاف ما يقتل من الجيوش.

فهل حروب كهذه يمكن أن تخدم الإسلام وتدافع عنه وترفع رايته؟ وهل هي تخدم أحدا أو تجلب نفعا لأحد؟ هل تجلب سوى العار والدمار للبشرية ولكل ما حولها؟

وإذا كان هذا هو الوجه الشرير البشع لعالم اليوم وحضارة اليوم، فإن هناك وجها آخر يجب استحضاره أيضا، وله تأثير بليغ في شأن دعوة الإسلام ومستقبل الإسلام، وفي مسألة الحرب والسلام، وأعني بذلك هذا التوسع غير المسبوق في فرص التواصل والتفاهم والحوار، وفي حرية الرأي والتعبير والدعوة والتبليغ.

إن الدعوة إلى الإسلام وتبليغه والدفاع عنه بشتى الوسائل، وفي مختلف بقاع العالم أصبح شيئا متاحا وميسرا بدرجة كبيرة. ففي أوروبا الغربية، وأوروبا الشرقية، وفي أمريكا الشمالية، وأمريكا الجنوبية، وفي شمال آسيا وشرقها وجنوبها، فضلا عن وسطها وغربها، وفي أفريقيا كلها، وفي روسيا وأستراليا، في كل هذه القارات والجهات من العالم ينتشر دعاة الإسلام وتنتشر المنظمات والمراكز الإسلامية، وتعقد الندوات والمؤتمرات الإسلامية، وتتاح لدعوة الإسلام فرص ومناسبات.

أنا لا أنكر وجود مضايقات وعراقيل وضغوط في هذا المجال، ولكنها على كل حال قد لا تكون أسوأ مما يجده الإنسان حتى من نفسه وأهله (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم).

بل أكثر من هذا، فإن الاستجابة لدعوة الإسلام، وقبول الاستماع إلى دعاته وعلمائه ومفكريه، وقبول التحاور معهم، قد يكون اليوم متحققا اكثر من أي عصر سابق. وإذا كان أبو الأنبياء، والأب الثاني للبشرية، نوح عليه السلام قد بلغ من سخطه على قومه أن دعا عليهم فقال:(رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) لأنه دعاهم ما يقرب من عشرة قرون، فما استجاب له إلا أفراد معدودون، ولأنهم أمعنوا في كفرهم وضلالهم بشكل قل نظيره في التاريخ إن كان له نظير (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا)… والنتيجة قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا..

وقد بلغت حالة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه شبيها بما بلغه نوح مع قومه، وظهر ذلك في دعائه أيضا: (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم).

وقد قص علينا القرآن الكريم من أنباء أصحاب الكهف وأصحاب الأخدود وغيرهم ما نعرف من خلاله مدى محنة المؤمنين والدعاة السابقين، لمجرد إيمانهم وقولهم ربنا الله، ولمجرد دعوتهم للإيمان، ونعرف من خلاله مدى الكفر والقساوة والجبروت الذي واجههم به أهل زمانهم وحكام زمانهم. وهي أحوال لا نكاد نجد لها مثيلا أو شبيها في عالم اليوم، شرقه وغربه وشماله وجنوبه…

إن واقع عالمنا اليوم، بوجهيه المذكورين: حروب الدمار الشامل من جهة، والفرص الواسعة الميسرة لحرية الدعوة ووسائلها، يجعل من الأفكار والمبادرات الحربية التي قد يتم اعتمادها واللجوء إليها باسم الدعوة الإسلامية، وباسم نصرة الإسلام، وباسم إعلاء كلمة الله، واقعة خارج التاريخ ولا تمت إلى طبيعة الواقع ومتطلباته بصلة. إنها أعمال تقع وتوضع في غير مواضعها وتقع على غير مناطاتها وخارج شروطها.

إن تبليغ الإسلام ونشره، وبيانه ونصرته، والدعوة إليه والدفاع عنه، كل ذلك متاح ميسور بما يفوق قدرات دعاته وإمكاناتهم، وما لا يكون ممكنا في بلد يكون ممكنا في غيره، ويكون غيره ممكنا فيه، وأمامنا وبين أيدينا من الوسائل والمسالك والمجالات ما لا يكاد يحصى، في أنواعه وليس في أفراده.

وقد حقق الإسلام في السنوات القليلة الماضية فتوحات عالمية، واخترق قلاعا عاتية، وذلك عبر القنوات التلفزيونية وعبر الوسائل الإلكترونية بمختلف أشكالها ووسائطها، ولقد أصبح منع الأعمال الدعوية والإعلامية والتواصلية، وفرض الرقابة عليها، ضربا من العمى والغباء والعبث عند من لازالوا يمارسونه من الحكام المتخلفين.

ولا نريد لبعض شباب الإسلام ولبعض دعاته وجماعاته أن يكونوا على هذا النحو من التخلف والغباء، فيستمروا في جهلهم وتجاهلهم لطبيعة زمانهم، ويستمروا لذلك في معارك عبثية لا محل لها من الإعراب.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى